الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

الاختيار القهري‏!‏



أرجو أن أجد لديك ما أحتاج إليه من مشورة تعينني علي الخروج من بحر الحيرة‏..‏ فأنا سيدة في الثامنة والعشرين من عمري وقد نشأت بين أبوين متحابين وعشت حياة هادئة وادعة وتمتعت دائما بحب أبي وأمي وأخي الأصغر وأهلي‏..‏ وتعودت منذ صغري أن أسمع كلمات الإعجاب بجمالي داخل أسرتي نفسها ومن الآخرين‏..‏ وحرصت والدتي منذ صغري علي تعليمي فروض ديني‏,‏ فنشأت علي الصلاة والصيام والاحتشام في مظهري‏,‏ وبدافع تلقائي في أعماقي وجدت نفسي أقرر ارتداء الحجاب وأنا في سن السادسة عشرة من عمري‏,‏ وفاتحت أمي برغبتي في ذلك فسعدت بها كثيرا وطلبت مني أن أستشير أبي أيضا في ذلك‏,‏ وتحدثت إليه عن رغبتي فشاعالرضا في وجهه‏,‏ ثم سألني هل هذه الرغبة نابعة من نفسي أم حثني عليها أحد؟‏,‏ فأجبته بأنها رغبة صادرة عني وأن كل صديقاتي المقربات بالمدرسة قد تحجبن من تلقاء أنفسهن ويواظبن علي الصلاة والصوم مثلي‏..‏ وأرغب في أن أنال رضا الله مثلهن فقبلني في جبهتي ودعا لي بالخير والسعادة‏,‏ وازداد حبا لي واقترابا مني‏,‏ وأصبح منذ ذلك اليوم يقول لي وللجميع إنني درة ثمينة لن يفرط فيها إلا لمن يعرف قيمتها‏,‏ والغريب أن ارتدائي للحجاب قد زادني جمالا‏,‏ وأكسبني مزيدا من الحب والاحترام‏,‏ ولم تمض بضعة شهور حتي فوجئت بأمي تبلغني بأن عمتي ترغب في خطبتي لابنها الذي يدرس بالسنة النهائية بكلية الهندسة‏,‏ وأن أبي قد اعتذر لها لصغر سني‏,‏ وبعد أسابيع أخري أبلغتني برغبة ابنة عمها في خطبتي لابنها ورفض أبي للسبب نفسه‏,‏ ثم تكررت هذه القصة أكثر من مرة خلال السنة الأخيرة من دراستي الثانوية وكان رأي أبي دائما هو أنني مازلت صغيرة وأنه لا يريد التسرعفي هذا الأمر لكيلا يسيء الاختيار‏,‏ ووافقت أبي علي ما رآه والتحقت بكليتي الجامعية‏,‏ ومضت حياتي هانئة وسعيدة‏,‏ وفي عامي الثالث شعرت بالتجاوب العاطفي مع شقيق إحدي صديقاتي‏,‏ وهو محاسب متدين ووسيم وعلي خلق كريم‏,‏ وصارحت أمي بذلك فوعدتني بمساندتي عند أبي حين يتقدم إلي‏,‏ وبدأ هذا الشاب يستعد لخطبتي وطلب مني الصبر عليه عاما آخر لكي يكون قادرا علي توفير متطلبات الزواج‏..‏ ووعدته بذلك‏,‏ لكن شيئا جديدا ظهر في حياتي وهدد أمانها وهدوءها‏,‏ فلقد كان هناك شاب مستهتر يلاحقني منذ فترة بإلحاح شديد ويطاردني بسيارته خلال ذهابي للكلية وعودتي منها‏..‏ ويحاول فرض نفسه علي بكل الطرق وأنا أتجاهله وأتفادي شره لعلمي بسوء سلوكه وسمعته‏,‏ وكان هذا الشاب قد حصل علي شهادته الجامعية بعد رسوب عدة سنوات‏,‏ وشارك أباه في عمله التجاري‏,‏ وقد أعجب بي وراح يلاحقني وكلما تمسكت بتجاهله ازداد إصرارا علي ملاحقتي كأنما قد عز عليه أن ترفضه فتاة وهو المرغوب من غيرها‏,‏ وبعد محاولات مستميتة بدأ يرسل لي رسائل شفوية عن طريق صديقاتي بأنه لن يتنازل عني مهما فعلت وأنه سيتقدم لخطبتي فإذا رفضته فإنه سوف يشن علي حربا شعواء ويشوه سمعتي ويشيع عني أشياء غير حقيقية ليثبت بها استهتاري وسوء أخلاقي‏!‏ وسمعت هذه التهديدات من بعض صديقاتي فتملكني الغضب والحنق‏,‏ وازددت إصرارا علي رفضه‏.‏
فإذا به يتقدم بالفعل لخطبتي‏,‏ وسألني أبي عن رأيي فصارحته برفضي له لسوء أخلاقه وتعدد علاقاته مع الفتيات ولعدم تجاوبي معه‏.‏ واعتذر أبي للشاب ووالده‏,‏ فكان ذلك بداية للحرب القذرة من جانبه ضدي‏..‏ فقد راح يطاردني في كل مكان ويحاول محادثتي‏,‏ ويتوعدني بأنه سيحول حياتي إلي جحيم ونفذ تهديده بالفعل فراح يرسل الخطابات القذرة لأبي وأخي وأهلي وأسر صديقاتي يتهمني فيها في شرفي ويحذر آباء صديقاتي من السماح لبناتهن بمصادقتي‏,‏ ووجدت نفسي أسمع كل يوم قصة جديدة من هذا النوع وأبكي من شدة القهر والإحساس بالظلم‏,‏ وتكدر صفو حياتنا جميعا وغضب أبي غضبا شديدا وتوجه لوالد الشاب وأطلعه علي الرسائل التي تلقاها وشكا إليه مما يفعله ابنه‏,‏ وغضب الرجل غضبا شديدا واستدعي ابنه وكاد يبطش به‏,‏ وهدده بأنه سوف يشهد ضده في قسم الشرطة إذا شكاه أبي إليه‏,‏ فإذا به يقول لأبيه مشيرا إلي والدي‏..‏ ولماذا لا يوفر علي نفسه وعلي ابنته هذه المتاعب‏,‏ ويزوجني منها؟ فكاد أبي المعروف دائما بهدوئه أن يجن لوقاحته‏..‏ وانصرف غاضبا وثائرا‏,‏ لكنه لم يتقدم بشكوي ضده إلي الشرطة حرصا علي سمعتي‏,‏ وتعاطفا مع والد الشاب الذي حار معه‏.‏
وفي هذه الفترة تقدم فتاي لأبي ورحبت به وبدأنا نستعد لإعلان الخطبة‏..‏ فجن جنون هذا الشاب المستهتر ولاحق خطيبي في الشارع أكثر من مرة وافتعل الأسباب للاصطدام به‏,‏ وكاد يصدمه في إحدي المرات بسيارته في الشارع‏.‏
ولم يكتف بذلك وإنما راح يرسل الرسائل القذرة إليه وإلي والدته وإخوته المتزوجين وشقيقاته‏,‏ يخوض فيها في عرضي ويتهمني ـسامحه اللهـ بأنني لست عذراء وأن حجابي ليس سوي مظهر خداع للتستر علي حقيقتي المدنسة‏!‏
وبلغني ذلك فانهرت‏..‏ ولزمت الفراش بضعة أيام وخيم الحزن والاكتئاب علي حياتنا‏,‏ وشعرت أمي بالخوف الشديد ليس فقط علي‏,‏ وإنما علي شقيقي الأصغر الذي أقسم أن ينتقم من هذا الشاب المستهتر ولو أدي الأمر دخوله السجن ثمنا لذلك‏,‏ وبات أبي في هم شديد‏..‏ وحصل علي إجازة من عمله ليلازم أخي ويمنعه من الإقدام علي عمل يضيع مستقبله‏..‏ واضطر لمراقبته ليل نهار‏,‏ كما منعه من الخروج إلي كليته بضعة أيام‏,‏ وأخذ عليه العهود المغلظة بألا يفعل ما يزيد به من متاعبنا‏..‏ وفعلت أنا أيضا نفس الشيء معه‏..‏ وقبلت رأسه وتوسلت إليه ألا يضاعف من عذابنا بالخوف عليه‏.‏
لكني شعرت بأنه يسايرنا لطمأنتنا‏..‏ وأنه سوف يقدم علي ما يفكر فيه بمجرد اطمئنانه إلي عدم مراقبتنا له‏,‏ خاصة وهو قوي الجسم ورياضي وله أصدقاء رياضيون مثله‏.‏
وفكرت أنا طويلا فيما أفعله لأحمي أخي وأسرتي من هذا العناء‏..‏
وبعد يومين من التفكير المتصل‏,‏ خرجت علي أبي وأمي بقرار غريب هو قبولي لخطبة هذا الشاب المستهتر والاعتذار للآخر الذي أحببته عن عدم الارتباط به‏!‏
وأعلنت قراري لأسرتي‏,‏ فجن أبي وغضبت أمي وشقيقي‏..‏ وحاولوا إثنائي عنه بكل السبل لكني صارحت أمي وحدها بأن هذا الشاب لن يدعني في حالي مهما فعلت وقد حول حياتي إلي جحيم وأنا بين أبي وأمي وفي حمايتهما‏..‏ وسيواصل ذلك أيضا وأنا زوجة‏,‏ ومادام الأمر كذلك فليكن زواجي منه تضحية مني لحماية أسرتي‏,‏ ومن يدري فلعله لم يفعل ما فعله إلا لأنه يحبني بصدق‏,‏ وإذا كنت أنا لا أحبه‏..‏ فربما أحبه في المستقبل‏.‏
واستمر الجدال بيني وبين أسرتي حول هذا الأمر شهرا كاملا وساهم في تليين موقف أبي‏,‏ أن والد هذا الشاب قد زاره بضع مرات معتذرا‏,‏ وراجيا قبول ابنه الذي لم يعد له من هدف في الحياة سوي الفوز بي آملا أن يكون ذلك سببا في انصلاح أحواله‏.‏
واعتذرت لفتاي الآخر وتحملت عتابه ولومه ودموعه‏..‏ وتحدد موعد قراءة الفاتحة مع الشاب المستهتر فبكيت بكاء مرا وشعرت بأنني أساق إلي مصير لا أستطيع الفكاك منه‏.‏
وتمت الخطبة في جو كئيب‏,‏ وكدت بعدها أتراجع عن استكمال المشوار لكن أشباح الجحيم الذي عشت فيه طوال العام السابق تراءت لي في مخيلتي وحطمت مقاومتي‏.‏
وقدم الشاب ووالده لأبي كل الإغراءات المادية لعقد القران وإتمام الزواج في أقرب وقت‏,‏ ولم تمض شهور حتي تم إعداد شقة الزوجية الفاخرة والزفاف‏.‏
وفي ليلة الزفاف شعرت بكراهية الدنيا كلها لهذا الشاب الذي أصبح زوجي لكني كتمت مشاعري في داخلي‏.‏
وشاءت رحمة ربي بي أن يعجز هو عن الوفاء بواجباته الزوجية إلا بعد أن اصطحبتني والدته ووالدتي إلي عيادة طبية للأمراض النسائية‏,‏ فرجعت من عندها وأنا أشعر نحوه بالاحتقار والانتصار‏..‏ وأريد أن أسأله أين تذهب من عقاب السماء علي ما افتريته علي ظلما وبهتانا‏.‏ ومضت حياتنا معا بعد ذلك في جفاء صامت من ناحيتي ومحاولات مستمرة من جانبه للتودد إلي والاعتذار لي عن كل ما فعله ضدي بأنه يحبني بصدق وأراد ألا يفوز بي أحد غيره‏..‏
وبعد عام وضعت طفلتي الوحيدة الجميلة‏..‏
ولم يغير مجيئها شيئا من برود العلاقة بيني وبينه‏..‏
بل ازدادت صمتا وجفاء ونفورا‏..‏
وبعد ميلاد الطفلة صارحته برغبتي في الانفراد بغرفة نومي دونه لكي أرعي المولودة‏,‏ وأتفرغ لها‏.‏
ولم يعترض علي ذلك كما لم يعترض علي شيء أردته طوال زواجنا‏,‏ ثم مات والده فشعر بالحزن الشديد عليه‏..‏ وداوم علي الصلاة لبعض الوقت بعد وفاته ثم انقطع عنها‏,‏ وشاركته الحزن علي هذا الرجل الطيب الذي لم أر منه سوي كل عطف واحترام منذ أن عرفته‏.‏
ومضي علي زواجنا ثلاث سنوات ولم يتغير الحال بيني وبينه‏..‏ فأنا أشاركه الزيارات العائلية والواجبات الأسرية‏..‏ وأقوم بواجباتي الزوجية تجاهه لكني لا أشاركه المشاعر العاطفية‏,‏ ولا أحب الخروج معه وحدنا‏,‏ وقد سعي هو بإخلاص خلال هذه السنوات إلي تحسين علاقته بأبي وأمي وشقيقي واعتذر لهم مرارا وتكرارا وقبل رأس أبي وأخي عدة مرات وتحمل جفاءهم ورفضهم إلي أن شعروا بالخجل من ذلك فبدأوا يتعاملون معه بروح جديدة‏.‏
كما لم يكف طوال هذه السنين عن محاولة استجداء مشاعري وتقديم القرابين لي لكي أغفر له ما فعل في حقي‏,‏ وقدم لي الكثير من الهدايا الثمينة فكنت أشعر في بعض الأحيان بشيء من العطف عليه‏,‏ وأشعر في أحيان أخري بثورة داخلية شديدة ضده حين أتذكر الحرب الشعواء التي شنها ضدي واتهاماته القذرة لي في شرفي‏,‏ وإرغامي علي الزواج منه والتخلي عن خطيبي الأول‏.‏
واكتسبت علاقتي به بعد أربع سنوات من الزواج طابعا من الاستقرار الذي لا حياة فيه ولا عاطفة‏,‏ فنحن لا نتشاجر ولا نتصادم‏,‏ ولكني أعيش في داخلي أكثر مما أعيش معه‏..‏ وأشاركه الأشياء في صمت وفتور بلا رغبة حقيقية‏.‏
ومنذ بضعة شهور رأيت خطيبي السابق بالمصادفة في مول تجاري مع شقيقته فتبادلنا التحية والأحاديث وشعرت في نظرة خطيبي السابق لي بالعتاب الصامت‏,‏ وعرفت من أخته أنه قد خطب فتاة لمدة عام ثم فسخ خطبته لها‏..‏ وأنه خاطب الآن فتاة أخري منذ بضعة شهور‏,‏ فرجعت إلي بيتي وأنا مضطربة المشاعر‏..‏ وانفجر بركان الغضب الصامت في أعماقي ضد زوجي‏,‏ واشتبكت معه في مشاجرة مفتعلة وثرت عليه ثورة هائلة‏,‏ وتركت طفلتي وبيتي ورجعت إلي بيت أبي بدعوي أنني سأستريح هناك بعض الوقت‏.‏
وفي اليوم التالي اتصل بي زوجي في التليفون ورجاني باكيا العودة للبيت من أجل طفلتي التي تفتقدني‏..‏ وأبدي استعداده لأن يغادر هو البيت إذا لم أكن أرغب في رؤيته‏.‏
ووجدت الغضب الهائل الذي تملكني فجأة يذوب أيضا فجأة‏,‏ ورجعت إلي البيت‏,‏ وواصلت حياتي معه‏..‏ ولاحظت بعد عودتي أشياء جديدة في شخصية زوجي‏.‏
فلقد لاحظت أنه قد انتظم في الصلاة لأول مرة في حياته‏,‏ وأنه شاركني لأول مرة أيضا صيام الأيام الستة البيضاء عقب العيد‏,‏ وشاركني كذلك صوم يوم الوقفة‏,‏ وأنه يبدأ يصوم تطوعا من حين لآخر كما لمست فيه أيضا تغيرات أخري‏..‏ إذ نهضت من نومي ذات ليلة لدخول الحمام فوجدته يصلي في الليل وحيدا وهو دامع العينين وفي حالة خشوع صادقة ورأيته بعد ذلك أكثر من مرة يصلي قبل نومه في حجرته ويقرأ القرآن ويستغفر الله كثيرا‏.‏
وعرفت من أحد العاملين معه جاء إلي ببعض مطالب البيت‏,‏ أنه يحرص علي الصلاة في مواعيدها خلال العمل وأن أخلاقه علي حد تعبيره قد تغيرت كثيرا خلال السنة الماضية وأصبح إنسانا آخر‏.‏
ولاحظت أيضا لأول مرة أن ابنتي الطفلة لا تتجاوب أبدا معه حين يلاطفها أو يحنو عليها وتسرع بالابتعاد عنه والالتصاق بي‏,‏ وأنه يشعر بنفورها منه ويتألم لذلك كثيرا‏.‏ وعجبت لنفسي كيف لم ألحظ ذلك من قبل‏..‏ وتساءلت عن السبب وأنا لا أذكره أمامها بسوء وبدأت أشعر بشيء من الأسي له وأسأل نفسي‏:‏ هل يحاسبني الله علي جفاء مشاعر ابنته له‏..‏ وهل يحاسبني علي هجري له‏,‏ وصمتي وفتوري الدائمين معه ومنذ فترة قصيرة فوجئت به يقول لي في هدوء إنه لا يريد أن يكرهني علي الحياة معه أكثر من ذلك‏,‏ وإنه يترك لي الخيار بين الاستمرار معه كزوجة كاملة‏,‏ أو الانفصال عنه‏,‏ ويؤكد لي أنه لن يعترض علي أي اختيار لي بل سيعينني عليه‏,‏ فإذا رغبت في الانفصال عنه فسوف يعطيني كل حقوقي بلا منازعة‏,‏ وسوف يترك لي ابنتي لأربيها في أحضاني‏,‏ وإذا تزوجت في المستقبل فلن يحول بيني وبين رؤيتها وستكون دائما ابنتي وأنا أمها‏.‏ وحدد لي مهلة لمدة شهر أفكر خلاله في أمري وأبلغه بعده بقراري النهائي‏.‏
ودار رأسي بما سمعت‏..‏ واستغرقني التفكير في أمري طوال الوقت واستشرت إحدي صديقاتي فقالت لي إنها فرصة ثمينة لكي أتخلص منه وأرتبط بالشاب الوحيد الذي كنت قد أحببته من قبل‏,‏ واستشرت أمي فنصحتني بالاستمرار معه لأنه تغير كثيرا وأصبح إنسانا طيبا ويحبني ويحترمني ويصبر علي الأذي مني‏,‏ وأيضا من أجل طفلتي التي لن تسعد بافتراقها عن أبيها أو عني‏.‏ وذكرتني أمي بأن زواجي منه كان قراري الشخصي واختياري الذي لم يرغمني عليه أحد‏.‏
وبالرغم من تأثري بكلامها إلا أنني ثرت في داخلي علي عبارة أنه لم يرغمني أحد علي الزواج منه‏,‏ وقلت لها بل إنه هو الذي أكرهني علي الزواج منه بالحرب القذرة والضغط المستمر‏,‏ وتحويل حياتي إلي جحيم‏..‏ لكن ذلك لم يخرجني من حيرتي ومازلت أتردد بين الميل للقبول بزوجي والاستمرار معه علي أسس جديدة من أجل طفلتي‏,‏ ومن أجل ما طرأ عليه من تغيرات إيجابية وما بدأت أشعر به من تقدير لحبه الكبير لي وصبره علي جفائي له كل هذه السنوات‏,‏ وبين الرغبة في إنهاء هذه الحياة الفاترة الصامتة والتحرر منها‏,‏ واختيار حياة جديدة لي بكامل إرادتي هذه المرة‏,‏ وليس تحت ضغط الظروف التي حكيتها لك‏..‏ فبماذا تشير علي يا سيدي‏..‏ وبماذا تنصحني أن أفعل؟

رد الاستاذ / عبد الوهاب مطاوع على كاتبة الرسالة

الفرق بين الاختيار الحر للإنسان والاختيار القهري الذي تمليه عليه الظروف الملحة‏,‏ هو أن الاختيار الحر يكون بين بدائل شبه متقاربة يعتمد التفاضل بينها علي الترجيح بين الحسن والأحسن من وجهة نظر صاحب القرار ووفقا لاقتناعه العقلي وميوله العاطفية والنفسية‏.‏ أما الاختيار القهري فهو الذي تضيق فيه دائرة الاختيار بين بدائل لا وجه للمقارنة من الأصل بينها‏,‏ كأن يجد الإنسان نفسه في الطريق وسيارة مسرعة تقترب منه لتدهمه فيكون الاختيار الوحيد المتاح أمامه هو التجمد في موقعه لتصدمه السيارة‏,‏ أو القفز إلي الرصيف لينجو من الهلاك‏,‏ وبالرغم من أن الإنسان سوف يختار غريزيا النجاة من الخطر إلا أن اختياره هذا يعد اختيارا قهريا لا بديل لعاقل سواه وبالرغم من توافر عنصر الإرادة فيه‏.‏
وأحسب أن اختيارك لزوجك كان من قبيل هذا الاختيار القهري الذي لا تتوافر فيه حرية الإرادة الكاملة حتي ولو لم يرغمك عليه أحد من أهلك‏,‏ إذ كان بالنسبة إليك اختيارا بين الاستمرار في مكابدة الجحيم والحرب القذرة وتعريض شرفك وسمعتك وأسرتك وشقيقك للأذي‏,‏ وبين إيثار السلامة وطلب النجاة من هذا البلاء‏!‏ فإذا كنت قد لمتك علي هذا الاختيار لأنه كان هروبا من المعركة ونكوصا عن التمسك بحقك المشروع في الاختيار الحر لحياتك وتحمل تبعات ذلك إلي النهاية‏,‏ فإني علي الناحية الأخري ألتمس لك بعض العذر فيه بالنظر للظروف المحيطة والضغوط القاسية التي أحاطت بك عند الاختيار‏.‏
غير أنني أتصور أن هناك عاملا آخر قد رجح لديك هذا الاختيار القهري لا يقل أهمية عن الاعتبارات العائلية ورغبتك في إنقاذ نفسك وأسرتك من المتاعب‏.‏
فلقد كنت تخوضين معركة غير متكافئة للدفاع عن شرفك وسمعتك ضد من يفتري عليك السوء ويتهمك بأبشع الاتهامات‏,‏ وضاقت نفسك بهذه الحرب القذرة بعد طول معاناة‏,‏ ورغبت في تطهير نفسك وسمعتك من كل ما علق بها من هذه السهام الطائشة‏,‏ فرأي عقلك الباطن ـوربما الواعي أيضاـ أن أنجع وسيلة لدحض هذه الاتهامات الظالمة لك هو أن تتزوجي ممن أطلقها ضدك فكأنما تحصلين بذلك منه علي شهادة البراءة أمام الجميع من كل ما افتراه عليك واتهمك به من قبل‏.‏
لكن السؤال المهم هو‏:‏ هل كان نفي هذه الاتهامات الكاذبة والرغبة في إنهاء هذه الحرب القذرة وحماية أسرتك من متاعبها‏,‏ يستحق منك هذا الثمن؟
إنه سؤال ترجع إجابته إليك‏..‏ وأيا كانت الإجابة فسوف يكون لها جانب لا بأس به من المنطقية والحجية‏,‏ لأنه لا يعرف لسع نيران الجحيم إلا م يكتوي بها‏.‏
وإذا عجبت لشيء في قصتك هذه فلن يكون عجبي الأكبر لاستسلامك أمام خصمك في هذه الحرب غير الشريفة طلبا للسلامة‏,‏ وقد كانت هناك بالفعل وسائل أخري لإنهاء هذه الحرب منها اللجوء إلي القانون وتحمل الحرب حتي النهاية‏,‏ وإنما سيكون عجبي الأكبر لاستسهال البعض بمثل هذا الطيش والفحش لاقتراف جريمة القذف في أعراض المؤمنات بغير خشية لعقاب السماء ولا عقاب المجتمع‏,‏ مع أنه جريمة يعاقب عليها الله سبحانه وتعالي في الدنيا والآخرة‏,‏ ويعاقب عليها أيضا المجتمع في قوانينه الوضعية‏!‏
فلقد جعل الله جريمة القذف من كبائر الإثم والفواحش التي يحد عليها مرتكبها إن لم يقم البينة علي صحة ما رمي به الغير‏,‏ وعقوبة القذف في الشريعة السمحة مادية وأدبية‏,‏ والعقوبة المادية هي الجلد‏,‏ والأدبية هي رد شهادة القاذف وعدم قبولها أبدا والحكم بفسقه حيث يصبح بذلك غير عدل عند الله والناس‏.‏
بل إن العلماء قد اختلفوا في توبة القاذف هل ترد له اعتباره فتقبل منه شهادته أم لا‏,‏ فذهب بعضهم إلي قبول شهادته إذا صحت توبته وذهب البعض الآخر إلي عدم قبولها‏.‏
كما أن الإسلام لم يكتف بتحريم القذف بالتصريح المباشر فقط وإنما حرمه كذلك بالتعريض أي بالتلميح دون التصريح به‏,‏ وفي عهد العظيم عمر بن الخطاب تساب رجلان فقال أحدهما للآخر‏:‏ ما أمي بزانية ولا أبي بزان‏.‏ وسأل عمر أهل الشوري في حكم هذه العبارة وهل تعتبر قذفا أم لا‏,‏ فقال أحدهم‏:‏ مدح أباه وأمه‏..‏ ولا شيء في ذلك‏!‏ وقال آخرون‏:‏ كان له في مدحهما سبيل آخر‏,‏ إنما هو قذف بالتعريض يستحق عليه الحد‏,‏ فأخذ عمر بهذا الرأي وجلد الرجل‏.‏
فما أعجب أن يرتكب البعض هذه الجريمة النكراء دون أدني إحساس بالإثم وكأنما قد صارت سلوكا عاديا لا يستحق الوقوف أمامه‏.‏
فأما تساؤلاتك الحائرة فلسوف أجيب عنها بترتيبها‏..‏
فإذا كنت تسألين‏:‏ هل يحاسبك الله سبحانه وتعالي علي جفائك لزوجك وهجرك له‏..‏ فجوابي عليه‏:‏ نعم‏.‏ لأنك بالرغم من كل ما جري قد ارتضيت به زوجا لك وقد كان في مقدورك رفضه ولو تحملت في سبيل ذلك العناء‏.‏
وإذا كنت تسألين‏:‏ هل يحاسبك الله سبحانه وتعالي علي نفور طفلته منه بالرغم من أنك لا تشيرين إليه بسوء أمامها‏,‏ فجوابي عليه هو أيضا‏:‏ نعم‏.‏ لأنك إذا كنت لا تذكرين أباها بسوء أمامها فأنت علي الناحية الأخري لا تذكرينه بخير لها ولا تحثينها علي حبه والاقتراب منه ولا تعرفينها بفضله عليها كأب لها‏.‏ وتكتفين بالتصاقها بك دون أن تؤدي واجبك كأم تجاه هذه الطفلة نفسها قبل أن يكون تجاه أبيها‏,‏ في توجيهها إلي حب أبيها والاقتراب منه‏.‏
فالأطفال الصغار إذا كانوا يرضعون حب الأم مع لبنها‏,‏ فإنهم لا يتشربون حب الأب في مثل هذه السن المبكرة إلا من خلال الأم الواعية لواجباتها الدينية والتربوية‏,‏ وذلك قبل أن يكبر الصغار ويتأثروا بمؤثرات الأب المباشرة‏.‏
وأما سؤالك الجوهري عن القرار النهائي الذي ينتظره منك زوجك‏,‏ فالحق أنني أشعر من خلال كلماتك بأنك لا تخلين من رضا عميق في داخلك عن حبه الكبير لك وأحسب أن هذا الرضا كان أيضا واحدا من الأسباب التي رجحت لديك الارتباط به إلي جانب الاعتبارات السابقة‏,‏ غير أنك تشعرين علي الناحية الأخري بأنك مازلت ضحيته ولست زوجته التي اختارته بملء إرادتها‏,‏ فيقف هذا الإحساس المؤلم حائلا بينك وبين التجاوب المتصل وليس المتقطع معه‏.‏
كما أنني لا أشعر بأن لديك رغبة حقيقية في تغيير حياتك وبدء حياة جديدة مع خطيبك السابق‏,‏ أو مع غيره‏..‏ وإنما أشعر فقط بأنك مازلت تريدين مواصلة عقاب زوجك علي ما اقترفه في حقك من جرائم قبل‏4‏ أو‏5‏ سنوات‏,‏ وأنك لا ترين الفترة الماضية كافية له للتكفير عما فعل ولا للصفح عنه‏,‏ ولا ترين كذلك أن ما قدمه لك من قرابين حسن المعاملة والاعتذار والتودد والصبر علي الجفاء والهجر كاف لذلك‏.‏
وبذلك لا يصبح الاختيار الذي تواجهينه الآن في الحقيقة بين الحياة معه كزوجة كاملة أو الانفصال عنه وبدء حياة جديدة بعيدة عنه‏.‏
وإنما يصبح الاختيار الحقيقي الذي تترددين أمامه هو إطالة مدة العقوبة لفترة أخري‏..‏ أو الصفح الآن والإفراج عنه لحسن السير والسلوك خلال فترة العقاب‏!‏
وأرجو أن تواجهي نفسك بشأن هذا الاختيار مواجهة صريحة لأنك ـفيما أتصورـ لا تخططين لبدء حياة جديدة مع غيره‏,‏ ولا ترغبين لطفلتك في التمزق بينك وبينه‏.‏ فإذا كان الأمر كذلك‏,‏ فلعلي أقول لك إن زوجك قد قدم لك ولأسرتك من القرابين وأهمها في نظري حسن معاشرته لك وتسامحه معك وصبره عليك‏,‏ ما يكفي إلي جانب التوبة والندم والاستغفار لأن يشفع له عند ربه فيما اقترف من جرم القذف السابق في عرضك‏.‏ فكيف لا يشفع له كل ذلك لديك؟
إن التغيرات الإيجابية في شخصيته والتزامه الديني والخلقي وكثرة استغفاره وصلاته وصيامه كل ذلك يرشحه لأن يستحق حبك وصفحك وحسن معاشرتك له‏.‏
ولقد اعتبرت نفسك قبل ذلك قد أرغمت علي الزواج منه بالاختيار القهري الذي لاخيار سواه إلا الجحيم وسوء السمعة‏..‏ وكان هذا الإحساس كفيلا وحده بعدم تفتح مسامك له فلماذا لا يكون قرارك النهائي الآن هو الزواج من زوجك هذه المرة بالاختيار الحر له والرغبة الصادقة فيه؟
إنني أعتقد أن حرية الاختيار لزوجك هذه المرة سوف تكون عاملا جوهريا في اختلاف علاقتك به وحياتك معه إلي الأفضل بإذن الله‏.‏
فلماذا لا تجربين هذا الاختيار الحر وتواجهين تبعاته بشجاعة نفسية وعاطفية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق