أنا شاب في الثالثة والعشرين من عمري نشأت بين أبوين طيبين مكافحين وأنا أصغر اخوتي حيث تكبرني اختان ثم الأخ الأكبر.
وكان والدي موظفا حكوميا صغيرا بمدينتنا القريبة من القاهرة وتفتحت عيناي للحياة فوجدت كل شيء في محيط أسرتنا يدور حول محور أخي الأكبر الذي يتقدم في الدراسة بنجاح وتتعلق به آمال أبي في ان يراه ذات يوم رجلا له شأن. فاعتدت منذ صغري احترام شقيقي هذا ورضعت حبه مع لبن أمي, ورأيت أبي لا يكف عن الإشادة باجتهاد أخي وجديته ورجولته المبكرة ويدعوني أنا وشقيقتي لاتخاذه مثلا أعلي لنا في الحياة, ويوما بعد يوم أثبت أخي لأبيه أنه عند حسن ظنه به بالفعل فحصل علي الثانوية العامة بمجموع كبير, ورشحه مكتب التنسيق للالتحاق بإحدي كليات القمة, وأشفقت أمي علي أبي من احتمال نفقات الدراسة المكلفة في هذه الكلية وتساءلت: كيف ستواجهها الأسرة, ومرتب ابي لا يكاد يكفي للنفقات الضرورية فإذا بالجواب يجيء من شقيقتي الوسطي التي تلي هذا الأخ في السن, فتعلن لأبي انها لا ترغب في مواصلة الدراسة لأنها لا تميل إليها وتفضل أن تعمل بالشهادة الإعدادية لتساعده في نفقات الحياة, وحاول أخي الأكبر للأمانة إقناعها بالاستمرار في الدراسة, مؤكدا انه سيتدبر امره في القاهرة حين يلتحق بكليته لكنها أصرت علي قرارها, وبالفعل توقفت اختي عن الدراسة التي لم تكن موفقة فيها ونجح أبي في إلحاقها بوظيفة مؤقتة في المصلحة الحكومية التي يعمل بها بمرتب بسيط, ونجحت هي في العثور علي عمل كسكرتيرة بعيادة أحد الأطباء بعد الظهر, والتحق أخي بكليته, واراد ابي ان يترفق باختي فاكتفي بمساهمة اختي بمرتبها من الوظيفة الصباحية في نفقات الأسرة, وترك لها أجرها عن الوظيفة المسائية لتنفق منه علي نفسها وتدخر بعضه لجهازها حين يجيء ابن الحلال, وشدت الأسرة الأحزمة علي بطون أفرادها لكي توفر لأخي نفقات الدراسة, وراح ابي يتنقل من عمل اضافي الي آخر ليزيد دخله ويشتري للابن الأكبر الملابس اللائقة وادوات الدراسة والكتب الغالية. وكل ذلك ونحن سعداء ونحلم باليوم الذي سيتخرج فيه شقيقنا ويحقق آمال الأسرة فيه, ولم يخيب أخي ظنوننا فقد راح ينتقل من سنة إلي أخري بنجاح, وكلما رجع إلينا في الإجازات انحني علي يدي أبي وأمي يقبلهما, واحتضن شقيقتي الوسطي والصغري, وقبل رأسي وأكد للجميع اعتزازه بهم واعترافه بفضلهم عليه..
وحصل شقيقي علي شهادته المرموقة وادي الخدمة العسكرية وعين في وظيفة ممتازة وتخففت الحياة في أسرتنا من بعض جفافها وشدتها, وسعد أبي بما حققه أخي سعادة طاغية, غير أن سعادته هذه لم تطل كثيرا إذ توفاه الله فجأة وهو عائد من عمله المسائي وبكيناه كثيرا وكان أكثرنا حزنا عليه أخي الأكبر.
وكنت عند وفاة أبي استعد لدخول امتحان الشهادة الإعدادية, فتزلزلت حياتي, وكانت النتيجة أن فشلت في الامتحان واستاء لذلك اخي الأكبر وعنفني بشدة ووعدته بأن أبذل اقصي جهدي في السنة المقبلة, وفعلت ذلك بالفعل ودخلت الامتحان ونجحت فيه بمجموع ضعيف, ولم يعد من سبيل امامي سوي اختصار طريق التعليم والالتحاق بمدرسة متوسطة.. وغضب مني أخي لذلك كثيرا وخاصمني بعض الوقت, لكنه نسي غضبه بعد فترة, حين استعطفته أمي علي, ومضت الأيام بنا ونحن نتدبر حياتنا بصعوبة بمعاش أبي ودخل اختي الوسطي, ثم جاء عريس لها وقبلت به لأنه زميلها في العمل فرفضت امي ان توافق عليه قبل ان يرجع اخي ويقرر ما يراه في شأنه. وبعد بعض المداولات وافق عليه اخي وهو كاره لأن وظيفته صغيرة ومرتبه ضئيل وشهدت هذه الفترة من حياتنا بعض المشاكل العائلية, فلقد اشتكت اختي من سوء معاملة أخي لخطيبها.. وقالت انه يتكبر عليه ويشعره بأنه غير كفء لمصاهرته, لكن الأمور مضت في طريقها في النهاية, وتزوجت اختي بإمكانات بسيطة وشعرت ببعض المرارة تجاه أخي لأن مساعدته لها كانت اقل مما قدمته هي له, ودافع هو عن نفسه بأنه مازال في بداية مشواره وأيدته أمي في ذلك ونهت أختي عن الشكوي. اما اختي الصغري فقد واصلت تعليمها حتي حصلت علي الثانوية العامة والتحقت بمعهد فوق المتوسط بمدينتنا وفي هذه الأثناء فاجأنا أخي الأكبر بأنه قد تقدم الي زميلة له في العمل من أسرة عالية المستوي, دون أن يصطحب أمه وأخوته معه في طلب يدها, مكتفيا في ذلك بقريب لنا من بعيد يعمل بالقضاء!.
وحزنت أمي لتجاهلها في هذه المناسبة التي كانت تترقبها لتسعد بها وشعرت شقيقتاي بالمرارة والإهانة. أما أخي فإنه لم يزد علي أن قال في ضيق إنه فعل ذلك لكي يوفر علينا مشقة السفر للقاهرة!.
لكن الإشارة لم تخف علي أحد, وأحسسنا جميعا أن شقيقنا الأكبر الناجح لا يرانا لائقين اجتماعيا لمصاحبته في خطبة فتاة من أسرة راقية..
وأكدت الأيام لنا بعد ذلك توجساتنا فلقد مضي في بقية الخطوات بغير أن يدعونا لمشاركته فيها, إلي أن حل موعد الزفاف, فدعانا إليه, ورأينا مسكن الزوجية الذي كان قد حصل عليه قبل عامين لأول مرة وشهدنا أثاثه الجميل, وعرفنا أنه يعمل بمكتب مهني بعد الظهر, وان الله قد اكرمه علي اجتهاده ويسر له طريقه, وذهبنا الي حفل الزفاف فوجدنا انفسنا فيه غرباء لا نعرف احدا ولا يعرفنا احد وانزوينا في ركن من الصالة في خجل وانتهي الزفاف وسافرنا في الليل عائدين الي مدينتنا, ورجع أخونا وعروسه الي مسكن الزوجية..
ومضت الأيام فلاحظت امي تباعد زيارات اخي لنا.. وتعمده أن يجيء وحيدا بدون زوجته كل مرة, كما لاحظت أيضا أنه قد كف يده عن مساعدتها بأي مبلغ بحجة أنه مدين ببعض ديون الزواج..
ومضت الأيام في طريقها فأصبح العام الطويل يمضي دون ان يجيئنا أخي مرة واحدة, ودون أن يسأل عنا, وأصبحت الصلة الوحيدة بيننا وبينه هي المكالمة التليفونية كل شهرين أو ثلاثة, وحصلت أختي الصغري علي شهادتها فوق المتوسطة وأكرمها ربها بالعمل وبدأت تساعد نفسها, ثم جاءها خاطب مناسب فطلبت مني أمي الاتصال بأخي ودعوته للحضور لمقابلة الخطيب والتفاهم معه, واتصلت به في بيته, فأجابني في ضيق بأنه مشغول ولن يستطيع الحضور قبل شهر أو شهرين وأبلغت أمي الرسالة فاكتأبت وأوصتني بألا أبلغ اختي بها, وبعد ثلاثة أيام طلبت مني السفر الي القاهرة ورجاء أخي ان يرجع معي ليقابل خطيب اختي ولو لمدة ساعة فقط ثم يرجع لحياته مرة أخري, وأعطتني امي عشرين جنيها لمصاريف السفر, وركبت الأتوبيس للقاهرة وتوجهت الي بيت اخي وطرقت الباب ففتحته لي زوجته وحييتها بمرارة ففوجئت بها تسألني في تجهم من أنت؟
وصدمت للحظات لكني التمست لها العذر لأنها لم ترني سوي في يوم الزفاف, وقدمت لها نفسي, فرحبت بي في تحفظ وقادتني للصالون ثم اختفت داخل الشقة وجلست وحيدا انتظر لمدة نصف الساعة دون ان يظهر أحد, واخيرا جاء اخي مرتديا البيجامة والروب ومتجهم الوجه فتهللت لرؤيته وهممت باحتضانه وتقبيله لكن جموده منعني من ذلك, وحييته فرد التحية باقتضاب وسألني عما جاء بي فأبلغته الرسالة وأنا في قمة الحرج والارتباك فقال لي انه لم يكن هناك داع لحضوري من مدينتي لهذا الغرض وحده, وانه سيحاول اكراما لأمنا ان يأتي بعد اسبوعين, ثم سألني هل معك نقود للعودة؟ فأجبته بالإيجاب فنهض وقادني الي باب الشقة وهو يطلب مني ابلاغ تحياته لأمي واخوته, وينصحني بالسفر علي الفور قبل ان تتوقف المواصلات! وغادرت مسكنه وانا في قمة الخجل والاضطراب.
ورويت لأمي ما حدث فبكت وطلبت مني ان اسامحه.. لكني طمأنتها الي انني لست حاقدا علي أخي او غاضبا منه, لأنه اخي في النهاية.. وفي مقام والدي مهما فعل.
وجاء أخي لمقابلة خطيب اختي الصغري.. ولم تجرؤ أمي بالرغم من كل شيء علي معاتبته علي شيء لأنها ضعيفة معه واكتفت بالترحيب به, وانتهي الموقف بالموافقة علي الخطيب والاتفاق معه علي التفاصيل.
وتجرأت أمي فطلبت من أخي بعض المساعدة في جهاز اختي لأنها عملت قبل عدة شهور فقط ولم تدخر الكثير فأشار برأسه متجهما انه سيفعل ما تسمح به ظروفه.
وخلال فترة اعداد الجهاز ارسل اخي مساعدته وكانت مبلغا اقل بكثير مما توقعته أمي لكنها بالرغم من ذلك دافعت عنه بأن عليه مسئوليات كبيرة خاصة بعد ان انجب طفلا.. واقترضت امي واختي الصغري من كل اقاربنا, وقامت اختي الوسطي بعمل جمعية ادخار من اجل اختها رغم ظروفها القاسية وكثرة اعبائها كأم لطفلين, وتزوجت في النهاية وتنفسنا الصعداء وخلال ذلك كنت قد حصلت علي شهادتي المتوسطة.. والتحقت بالخدمة العسكرية وجاء تجنيدي في موقع قريب من القاهرة, فأمضيت فترة التجنيد كلها معتمدا علي ما تعطيه لي أمي من نقود قليلة وعلي ما أحصل عليه بالعمل في مقهي بمدينتنا خلال أيام الإجازات, ولم أفكر مرة واحدة في اللجوء الي أخي. وفضلت اكثر من مرة حين لا اجد وسيلة مواصلات في الليل, المبيت في محطة السكة الحديد انتظارا لقطار الصباح, علي ان اذهب الي بيته للمبيت فيه تخوفا من احراجه او من جفاء المقابلة منه ومن زوجته وانتهت فترة الخدمة العسكرية بخيرها وشرها, ووجدت عملا مؤقتا في مدينتي بمائة وخمسين جنيها في الشهر وحمدت الله سبحانه وتعالي علي ذلك خاصة وقد خلا بيت الأسرة علي وعلي امي بعد زواج الأخت الصغري, واصبح معاش امي ومرتبي كافيين لنفقات الحياة, ولقد كان من الممكن ان تستمر حياتنا هادئة لولا ان امي والأختين لا يكففن عن الشكوي من تباعد اخي الأكبر عنا.. ومرور الشهور الطويلة دون ان يسأل عنا بمكالمة تليفونية في بيت الجيران, أو يصل رحمه معنا, ودون ان نزوره بالطبع لأننا جميعا قد تعلمنا الدرس ووعيناه كما مرضت أمي بالسكر والضغط والمرارة, وقمت والحمد لله بخدمتها وعلاجها ووقف معي في كل أزمة صحية لها زوجا شقيقتي اللذان لا يتأخران عني اذا طلبتهما في اي وقت من الليل أو النهار, ولقد اصبح لأخي طفلان عمر اكبرهما6 سنوات واصغرهما خمسة اعوام ولم نرهما الا ثلاث مرات طوال عمريهما وبعد إلحاح شديد من امي علي اخي لكي يحضرهما معه لساعات.. أما زوجته فلم تدخل بيتنا المتواضع في مدينتنا ولا بيتي اختي الوسطي أو الصغري, والأمر الذي دعاني للكتابة اليك هو انني قد ارتبطت بفتاة متدينة من جيراننا احبتني بالرغم من ظروفي البسيطة واحببتها, ووالدها مدرس بالتعليم ورجل متدين وفاضل وقد رحب بي مبدئيا رغم علمه بأنني لا املك شيئا ولا استطيع توفير مسكن آخر سوي مسكن أمي, وكان شرطه الوحيد لكي يقبل اعلان الخطبة هو ان يجيء أخي الأكبر مع أمي والأختين لكي يطلب يد ابنته منه. ووعدته بذلك واتصلت بأخي وأبلغته بما حدث فرد علي بجفاء يسألني ولماذا الاستعجال؟ ومن اين ستتوافر لك نفقات الشبكة والمهر والزواج؟.. ثم طالبني بتأجيل التفكير في الزواج نهائيا لعشر سنوات علي الأقل لكي أبني نفسي وبعدها يحق لي ان افكر فيه, وفشلت في اقناعه بالحضور واتصلت به بعد ذلك فتحدث معي بجفاء اشد واكد لي رفضه الحضور وقال لي انني اذا كنت مصرا علي الخطبة فلأتقدم بدونه الي والد فتاتي مع انني اكدت له انني لا اريد شيئا منه سوي الحضور بسيارته الي مدينتنا لبضع ساعات يقابل خلالها والد فتاتي ويطلب يد ابنته منه, ويشعرني بأن لي أبا اتشرف به بعد والدي يرحمه الله.
وأقسمت له أني لن أطالبه بأي شيء آخر بعد ذلك, فأنا رجل وأعمل وقد رجعت الي العمل في المقهي في المساء كل يوم لكي أدخر ثمن الشبكة, ووالد فتاتي لا يري في ذلك اي بأس ويقول لي ان كل عمل شريف يستحق الاحترام.. وان الكفاح في الحياة شيء جميل.
ولست أريد من اخي هذا سوي ألا يخذلني امام والد فتاتي ويشعره بأنني مقطوع من شجرة وليس لي كبير يرجع إليه ويرتبط معه بكلمة.. انني ارجوك ان تقول له انني وأمي وشقيقتي نحبه مهما بعد عنا, وإذا كان هو لا يفخر بنا بسبب ظروفنا البسيطة التي لا ذنب لنا فيها فاننا نحن نفخر به لأنه أخونا أولا, ولأنه ثانيا قد اجتهد وحقق لنفسه ما يستحقه ولكل مجتهد نصيب.. ونحن راضون بنصيبنا في الحياة ولا نحسده علي نصيبه منها لأنه كافح واجتهد لكي يحصل علي ما يريد لكنه لا يصح ان يتكبر علينا ويبتعد عنا لمجرد أننا بسطاء الحال, فنحن أهله الذين يسوؤنا كل ما يسوؤه ويسعدنا كل ما يسعده, ونخاف عليه من أي سوء لأن الدم لا يتحول الي ماء ابدا يا سيدي, فهل تستطيع ان تقول له ذلك! وهل تستطيع ان تقول له انني شاب ومن حقي ان ارتبط بفتاة تحبني واحبها مثلما ارتبط هو بزوجته, ولا يحرمني من هذا الحق انني موظف بسيط الحال ولست جامعيا ومهنيا ناجحا مثله لأن لي في النهاية قلبا يخفق ويحب الخير له ولكل الناس ولا يحمل حقدا لأحد وهل تستطيع أن تقول له انه من الخير لي ولأمي ولأخوتي ان يجيء لمقابلة والد فتاتي ويتنازل عن شرط السنوات العشر, هذا لأن فتاتي لن تنتظرني كل هذه السنين الطويلة وأعاهد الله واعاهدك انني لن اكلفه جنيها واحدا من نفقات زواجي!
رد الاستاذ عبد الوهاب مطاوع على كاتب الرسالة
شقيقك الأكبر ياصديقي يتحسب لأن يضع يده في يد والد فتاتك فيصبح مسئولا من الناحية الأدبية علي الأقل, عن وفائك أنت بما سوف يرتبط هو به معه من التزامات مادية بشأن الشبكة والمهر وما الي ذلك من شئون الزواج. لكن ذلك لا يبرر له أبدا أن يجحد حقك عليه كشقيق أصغر له في أن يكون معك حين تطلب يد فتاتك ولا أن ينكر عليك حقك المشروع في أن يخفق قلبك بحب فتاة ترغبها وترغبك وتقبل بكل ظروفك, وتبدي استعدادها للصبر عليك الي أن تتدبر أمرك, فالارتباط المشروع ليس حكرا علي الحاصلين علي الشهادات الجامعية المرموقة الذين يعملون عملا مهنيا مربحا كأخيك, وإنما هو حق لكل شاب شريف يرغب في اعفاف نفسه ويكافح بإخلاص للارتقاء بحياته ويعتمد علي طاقته وشبابه في تحقيق آماله, ولا ينتظر من الآخرين أن يكافحوا نيابة عنه لتحقيقها له.., ومادامت فتاتك ترغب فيك وتتفهم ظروفك ووالدها يرحب بك ويشجعك علي كفاحك فماذا يضير هذا الأخ الأكبر في أن يشرفك أمام أصهارك الجدد, ويشعرهم بكرامتك الانسانية وعزتك العائلية في مثل هذه المناسبة الجليلة في حياتك؟
ان الانسان تشتد حاجته الي أهله في مناسبتين أساسيتين من مناسبات الحياة هما الزواج والموت. وذوو الفضل والرحمة هم الذين ينهضون بغير دعوة لمؤازرته والوقوف الي جانبه في كل من هذين الموقفين.. وفي مثل ظروفك فإن هذه المؤازرة التي تتطلع اليها من أخيك هي مؤازرة معنوية وأدبية في المقام الأول مهما اشتدت هواجسه هو من احتمال تورطه في بعض الأعباء المالية, اذ إنه حتي ولو صدقت هذه الهواجس بعد حين ووجد نفسه مضطرا لمساعدتك في بعض هذه الأعباء, فماذا يقض مضجعه الي هذا الحد في ذلك, ولقد كانت مساعدته لأخته التي أسهمت اسهاما مباشرا في تدبير نفقات تعليمه وتخرجه في كليته المرموقة أقل كثيرا مما كان يقتضيه الوفاء والواجب العائلي أن تكون عليه مساعدته لها, وكانت مساعدته لأخته الصغري التي تحملت مع بقية الأسرة جفاف الحياة وشد الأحزمة علي البطون لكي يصنع هو نجاحه, أقل من القليل الذي كان يرجي منه, فكيف ستكون اذن مساعدته لك لو اضطرته الظروف لها وأنت الرجل الذي يكافح بشرف ليتحمل مسئولياته.. وتؤكد له من الآن أنك لا تنتظر منه شيئا!
انه لو فعل ذلك.. لما كان ذلك تفضلا منه, وانما وفاء بحقكم عليه وقد شاركتم جميعا في صنع نجاحه, بتحملكم لقسوة الحياة سنوات عصيبة توجهت خلالها معظم موارد الأسرة إليه خلال فترة دراسته الجامعية وفيما قبل ذلك أيضا.. فما وجه العجب وقد من الله عليه بفضله في أن يعين أخا مكافحا له علي أمره ولو كان ذلك من زكاة ماله والأقربون أولي دائما بكل معروف من غيرهم!
وما هذا التعالي والجفاء والتكبر الذي يعاملكم به وكأنه قد خرق السماء طولا.. لمجرد أنه قد انتشل نفسه باجتهاده من ظروفكم البسيطة ورقي درجة من درجات السلم الاجتماعي!
وكيف تكون الأم والإخوة هم من يستشعرون هذا التكبر والغرور في أخيهم المرموق, وهم أحق الناس بحبه واعتزازه بهم وعطفه عليهم؟ ان شقيقك هذا قد يصلح لأن يكون مثلا أعلي لكم في الاجتهاد والكفاح ومغالبة الظروف القاسية للارتقاء الي حياة أفضل.. لكنه لا يصلح أبدا لأن يكون مثلا أعلي لأي أحد في البر بالأبوين وصلة الاخوة وصلة الرحم وفضيلة التواضع والفهم الصحيح لحقائق الحياة, ذلك انه اذا كان التكبر مذموما علي اطلاقه مع كل البشر تواضعا لله سبحانه وتعالي, واعترافا له بأنه وحده سبحانه وتعالي من يحق له التكبر دون بقية خلقه, فإنه علي الإخوة والأقربين ليس مذموما فقط وانما اثم كبير لأنه يمزق الرحم التي أمر الله بها أن توصل ويغرس المرارات والأحقاد في أعماق أحق البشر بصفاء نفوسهم تجاه بعضهم البعض وبتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم.
إنني أحيي فيك صفاء قلبك تجاه أخيك بالرغم مما نالك منه من مجافاة وإبعاد, لكني علي الناحية الأخري لا أفهم سر هذا الضعف الغريب في التعامل معه من جانب والدتك التي لم تجرؤ حتي علي معاتبته علي سوء استقباله لك حين زرته في بيته, ولا علي تحريمه بيته عليك وعليكم جميعا وكأنما قد خرج من جلده وأصبح شخصا آخر لمجرد تحسن أحواله الاجتماعية والمادية عنكم, ولو لامته والدتك علي هذا التجافي الذي يبديه نحوكم لما حق له أن ينكر عليها ذلك, ولو غضبت عليه وحرمته من رضاها عنه لاستحق هذا العقاب المعنوي كل الاستحقاق ولربما نغص الاحساس بالذنب تجاهكم عليه حياته, ورده الي الطريق القويم فتخلصوا جميعا من هذا الضعف والانكسار تجاهه.. وتعاملوا معه كما تتعامل الأم مع ابنها والأخ والأخت مع اخيهم, ولست أطالبكم بمقاطعته.. وحاشاي أن أنصح بقطيعة رحم وانما أطالبكم فقط بمعاتبته ومحاسبته محاسبة الأخ لأخيه والأم لابنها مهما علا قدره عن مجافاته لكم وابعادكم عنه وعن طفليه وزوجته.. كما أطالبكم أيضا باشعاره باستغنائكم المادي النهائي عنه لكي تهدأ هواجسه مادام قد رضي لنفسه ذلك فلربما يعيد النظر في موقفه منكم ويطمئن قلبه الي أنكم إنما تحتاجون اليه انسانيا فقط كما يحتاج هو اليكم عسي أن يفيق من غفلته قبل فوات الأوان ويدرك أنه مهما طاول الجبال طولا فإن مصيره في النهاية اليكم والي مقابر الأسرة في مدينتكم حيث لن يقوم به وينتحب عليه ويتلقي العزاء فيه بعد عمر طال أم قصر.. سواكم.
لقد أحنقتني رسالتك هذه وما رويته فيها من مظاهر تكبر أخيك علي أقرب الناس اليه وابعاده لهم عنه ومجافاته لهم وتغطرسه عليهم, فتساءلت أي شيء في الوجود يبرر للانسان أن يعتز بنفسه بعض هذا الاعتزاز ويستشعر الكبر والتعالي علي أهله؟
لقد روي لنا ابن القارح في رسالته الي أبي العلاء المعري التي رد عليها شاعر المعرة برسالته الشهيرة: رسالة الغفران, ان زاهد الكوفة ابن السماك قد دخل علي الرشيد وفي يده كوب من الماء يهم بشربه, فسأله الرشيد أن يعظه, فأشار السماك الي كوب الماء في يد الخليفة وقال له: أرأيت لو قدر الله عليك العطش ثم قال لك لن أمكنك من شرب هذا الكوب إلا بنصف ملكك, أكنت فاعلا ذلك؟ فقال الرشيد: نعم, فقال ابن السماك: اشرب هناك الله. فلما شرب قال له: أرأيت يا أمير المؤمنين لو قدر الله عليك فقال لك لن أمكنك من اخراج هذا الكوب إلا بملكك كله أكنت فاعلا ذلك؟, فقال الرشيد: نعم.
فقال له زاهد الكوفة: إذن.. فاتق الله في ملك لا يساوي إلا إخراج بعض الماء!
فاذا كان هذا ثمن ملك هارون الرشيد الذي كان يقول للسحابة الهائمة في السماء: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك, فأي معجزة حققها شقيقك في حياته لكي يري في نفسه ما يدعوه الي الاستعلاء بها علي أمه وإخوته وأهله؟
ياصديقي الشاب لقد قلت لشقيقك كل مايعقل الحرج قلمك عن أن يقوله.. فإن لم يكن كل ما قيل كافيا لأن يعيده الي رشده وانسانيته, فلن يجدي معه قول آخر.
وانصحك في هذه الحالة أن ترجو والد فتاتك الرجل المتدين الفاضل أن يتنازل عن شرط التعامل مع شقيقك هذا ويكتفي بك وبوالدتك وشقيقتيك وزوجيهما ففيهما الكفاية كل الكفاية, اذا أبي أخوك لنفسه هذه الكرامة التي تكرمونه بها وتعلون بها من قدره أمام الآخرين.
فجزاء من يأبي لنفسه مثل هذه الكرامة.. أن يحرم منها
وحسب من يعميه غروره وتكبره عن أن يعتز بمن يعتزون به ويتشرفون بالانتساب اليه ويعتبرونه نجم الأسرة الوحيد أن يحرم نفسه بيده من مثل هذا الاحساس الانساني الثمين, ذلك أننا في النهاية لا قيمة حقيقية لنا إلا لدي من يحبوننا ويعتزون بنا وتنطوي صدورهم لنا علي مشاعر الحب والاكبار والاعزاز, وفيما عدا هؤلاء فلسنا بالنسبة لغيرهم سوي ذرات سابحة في فضاء الكون السحيق.. لا يشعرون شعورا حقيقيا بها ولا يفتقدونها اذا غابت.
فكيف يباعد ذو قلب حكيم من لاقيمة له إلا لديهم ويقرب من لايساوي لديهم في الميزان الحقيقي شروي نقير؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق