أنا أم لفتاة في سن العشرين جميلة وعلي خلق ودين تؤدي فرائضها, وترعي الله في حياتها ومتفوقة في دراستها وتعاملني وتعامل أباها وأخوتها بكل العطف والحب والاحترام, وكغيرها من البنات فلقد راحت منذ شارفت سن الشباب تحلم بفتي الأحلام الذي سيجيء من عالم الغيب ويخفق له قلبها وتشاركه رحلة الحياة, وما إن وصلت الي عامها الجامعي قبل الأخير حتي تقدم لخطبتها شاب يعمل عملا مهنيا, وتتوافر فيه مواصفات فتي الأحلام الذي تحلم به, وقمنا بدورنا في الاستعلام عنه وعن أسرته فجاءت المعلومات مطمئنة, فالأسرة محترمة والشاب متزن وكلامه جميل ومعقول, فشعرت أنا وزوجي بالارتياح له ولأسرته, غير أن ابنتي لم تشعر من الوهلة الأولي بنفس هذا الارتياح تجاهه, وأعطيناها المهلة الكافية للتفكير في الأمر, وفي نهايتها قالت لنا بأمانة أنها لا تنكر عليه شيئا. ولكنها فقط لا تشعر بالارتياح الكامل له ولاتدري لذلك سببا, ولأنها تخشي ربها فلقد خشيت ان تظلمه بالرفض لغير سبب واضح واستجابت لرغبتنا في إعطائه الفرصة لأن يقترب منها وتكتشف فيه مزاياه, وهكذا تمت الخطبة وبعد فترة قصيرة منها طلبت أسرة الشاب عقد القران, وعارضت ابنتي في البداية تعجل عقد القران, ثم وافقت في النهاية بالرغم من تخوفها من بعض المؤشرات التي ظهرت عليه خلال فترة الخطبة كإحساسها بأنه يكذب كثيرا, ومضت الأمور في طريقها الطبيعي وبدأنا في إعداد الجهاز وبدأنا نتردد كثيرا علي الشقة التي ستكون عش الزوجية لوضع الأثاث والمفروشات إلخ. وكلما اشترينا شيئا جديدا حملناه الي الشقة المغلقة ووضعناه فيها.. الي ان اكتملت الشقة تماما من الأثاث والسجاد والستائر وأدوات المطبخ والفضيات إلخ ولم يبق إلا إتمام الزفاف بعد اسبوعين وكان آخر ما اشتريناه هو تليفزيونا ملونا, فأقترح زوجي ان نحمله من المحل الي الشقة مباشرة وسأل ابنتنا التي كانت معنا عن مفتاح شقتها واجابت بانه معها فتوجهنا بسيارة زوجي الي الشقة المغلقة ونحن في غاية السعادة والابتهاج ونتبادل الرأي حول المكان الأمثل لوضع التليفزيون فيه, وفتحت ابنتي الشقة ودخلنا إليها.. وبدأنا في وضع التليفزيون فإذا بنا نسمع كلاما وضحكات مكتومة.. وتوجسنا شرا وتصورنا ان بالشقة لصا يسرق محتوياتها وتجولنا في غرفها بحذر الي ان فتح زوجي باب غرفة النوم فإذا بنا نري خطيب ابنتي الذي سيزف إليها بعد اسبوعين فقط ومعه زميلة لها بالجامعة, سبق ان ترامت إليها أنباء عن علاقته بها وواجهته بذلك فأنكرها إنكارا تاما!
ولم تحتمل ابنتي الطيبة الموقف المشين وهرولت خارجة من الشقة.. وواجهت أنا وزوجي هذه اللحظة العصيبة.
وبعد أهوال لا داعي لذكرها استدعينا أهله وروينا لهم ماحدث فعقد الخجل والذهول ألسنتهم, وطلبنا منهم ان يطلق ابنهم ابنتنا علي الفور, ولم يلحوا علينا كثيرا للعدول عن مطلبنا لإحساسهم بالخزي مما فعل ابنهم.. لكنه رفض الطلاق وطلب إعطاءه فرصة أخري لإصلاح نفسه ولأنه متمسك بابنتي الصفحة البيضاء التي لم يخط فيها احد حرفا من قبل كما قال! وأصرت ابنتي ووالدها علي طلب الطلاق بلا أي تفاهم, وقامت ابنتي بعمل توكيل لوالدها لإتمام الطلاق في غير حضورها لكيلا تري هذا الشاب مرة أخري, وبعد محاولات عديدة تم الطلاق, ووجدت ابنتي نفسها مطلقة وهي في سن العشرين من عمرها وبلا ذنب جنته سوي أن حلمت كغيرها من الفتيات بفتي تشاركه حياته ومشاعره, وقد سجلت في صفحتها البيضاء هذه الزيجة التي لم تتم, واصبحت مطالبة اذا تقدم لها شاب آخر بأن تفسر له لماذا طلقت قبل الزفاف.. وماهي الأسباب. وقد يقتنع بذلك.. وقد تراوده الشكوك تجاهها وتتساءل ابنتي الآن: ماذنبي في كل ماحدث؟! وماذا تقول للأهل والأصدقاء والجيران إذا سئلت عنه وقد استسلمت للحزن والاكتئاب وامتنعت عن الذهاب الي كليتها واعتزلت الزيارات العائلية.. وراحت تقضي معظم وقتها في حجرتها صامتة مكتئبة وتتجنب مقابلة الضيوف, وتتهرب من أبيها واخوتها حين يدعونها للسمر معهم.
ان قلبي ينزف دما حزنا علي ابنتي وأرجو منك ان توجه إليها كلمة تدعوها فيها الي الخروج من حجرتها والعودة الي الجامعة لتحصل علي شهادتها هذا العام وتقدم لها النصيحة بأن ماحدث لها لا يعني انتقاص فرصتها في الزواج الموفق ولابد أن الله سبحانه وتعالي سوف يعرضها عن هذا الظلم الذي تعرضت له بلا سبب وشكرا لك مقدما.
رد الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
يختلف تفاعل الإنسان مع الكثير من مواقف الحياة باختلاف زاوية الرؤية التي يرصدها منها. وفي حالة ابنتك فلقد استسلمت للحزن والاكتئاب لانها قد تفاعلت مع التجربة المحزنة التي تعرضت لها وفقا لزاوية رؤية واحدة رأت من خلالها انها قد تعرضت لأذي نفسي كبير بلا أي ذنب جنته في هذه المحنة, وشعرت بالظلم لأن صفحتها البيضاء مع الحياة والزواج قد نقشت عليها سطور هذه التجربة الفاشلة, وأصبحت مطالبة بتقديم تفسير لها للغير ولمن يتقدم للارتباط بها في المستقبل, فضلا عن إحساسها بالمهانة ومرارة الغدر والخيانة ممن توسمت فيه الوفاء لها والرغبة الصادقة في تكريس مشاعره وعواطفه لها دون غيرها من الفتيات.
ولاشك في أنها محقة في كل ما تشعر به من ألم وظلم وجرح للكرامة الانسانية في هذه المحنة القاسية.. لكن ماذا عن زاوية الرؤية الأخري لنفس هذه المحنة.. وعن الجانب الآخر الإيجابي فيها ؟
لقد تعرضت ابنتك ياسيدتي لأذي معنوي كبير في هذه التجربة.. وخسرت بعض الخسائر النفسية والمعنوية المحققة فيها.. لكن هذه المحنة من زاوية أخري قد أكدت لها ان أقدارها قد ترفقت بها فكشفت لها عن الجوهر الحقيقي الفاسد لمن كانت ستشاركه رحلة الحياة قبل ان يحفر في صفحتها البيضاء أثرا أعمق غورا من أثر التجربة الفاشلة, وقد يتعذر محوه أو علاجه في المستقبل بغير خسائر جسيمة. إنها محبوبة الأقدار كذلك وليست ضحيتها فقط كما تتصور الآن فلقد شاءت لها أقدارها الرحيمة أن تتثبت من صدق مشاعرها المبدئية بعدم الارتياح لهذا الشاب قبل أن يدخل بها وتنجب منه وتتشابك خيوطها معه ويتعذر فضها بغير أن تدفع من حياتها وأمانها وأيامها ثمنا فادحا, ولا عجب في ذلك لأن من لم يتورع عن خيانة زوجته التي ستزف إليه بعد اسبوعين فقط علي فراش الزوجية, لم يكن ليتورع غالبا في المستقبل عن خيانتها والعبث مع غيرها بعد بنائه بها, وكان الأرجح ان تعاني معه الكثير والكثير من كذبه وعبثه وخيانته لها بعد الزواج والإنجاب.. فلماذا لا تلتفت الي هذا الجانب الايجابي في محنتها وتشكر ربها كثيرا عليه ؟
أما تحسبها بلتسجيل هذه الزيجة الفاشلة عليها.. واضطرارها لاتخاذ موقف الدفاع عن نفسها بشأنها مع من سوف يرتبط بها في المستقبل, فهو ثمن قليل لهذه المحنة التي تلطفت فيها الأقدار بها فحجمت خسائرها كثيرا بالنسبة لها, ولا يقارن هذا الثمن القليل بالآخر الفادح الذي كانت ستدفعه من حياتها واستقرارها وأمانها في المستقبل لو كانت قد ارتبطت بهذا الشاب, وماأكثر الزيجات التي تتعرض للانهيار قبل إتمامها, وتجربة ابنتك ياسيدتي في النهاية ليست تجربة زواج فاشل, وإنما هي تجربة خطبة لم يقدر لها النجاح والاستمرار حتي ولو كان قد عقد قرانها علي ذلك الشاب خلالها وبالتالي فإن صفحتها مع الزواج مازالت بيضاء من غير سوء والحمد لله. وستظل كذلك الي أن يجمع الله بينها وبين من يستحقها ويقدر لها مزاياها في القريب العاجل بإذن الله.
ونحن في النهاية نعرف الخير بالشر والطيب بالخبيث والأمين بالخائن أي بمقارنة القيم والأشياء بأضدادها, ولولا وجود الشر في الحياة لما أدركنا قيمة الخير ولما أعليناه عليه.. فلتهون إذن ابنتك علي نفسها, ولتخرج عن صمتها وعزلتها.. ولتطلق لسانها من عقاله بالشكوي من سوء حظها الذي عرضها لهذه المحنة العابرة في حياتها وبالشكر لربها ان أنقذها من حياة زوجية لم تكن لترشحها إلا للتعاسة والمعاناة, فذلك خير وأفضل من مكابدة الصمت وكتم المشاعر والخواطر التي تمور داخل النفس وتترك أثرا سلبيا سيئا علي الصحة النفسية. فالصمت هو قمة الانفعال كما يقول لنا أحد علماء النفس المحدثين, وأكثر اللحظات أثارة للانفعال في حياتنا هي اللحظات التي يبلغ من انفعالنا لها ألا نجد مانقوله فيها من كلمات, ولهذا فاني أدعو ابنتك الي الخروج عن صمتها ومن عزلتها والي المشاركة من جديد في مباراة الحياة بخبرة أفضل ببعض أسرارها.. وإيمان أكبر بجدارتها بأن تنال كل ماتستحقه من طيبات الحياة وبثقة أعمق في أن تعويض السماء لها عما تعرضت له سوف يمحو تلك السطور الباهتة من صفحتها.. ويحل مكانها سطورا مضيئة بالسعادة والتوفيق في المستقل القريب بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق