الأحد، 26 مايو 2013

هل تمل النفس من كثرة الأشياء؟



سؤال كثيراً ما يخطر ببالي، ولا أجد إجابة شافية له، فكثرة المال مثلا لا تمله النفس في كل الأحوال، فهناك

من يملّون من كثرة المال حتى يصبح المال غير ذا قيمة، فعندما يكون الإنسان فقيراً معدماً يكون لأصغر العملات قيمة عنده، وتمثل بضع جنيهات ثروة، ولكن نفس هذا الشخص إذا ما هبطت عليه ثروة من إرث مثلاً يصبح المال غير ذا قيمة فتجده ينفقه بشغف شديد يلقيه في غير مكانه الذي خلق من أجله، ولا تعود أهمية المال إليه إلا إذا فقده مرة أخرى، ووقتها فقط يعض أصابع الندم، مثله كمثل من يغتر بقوة الشباب وعنفوانه وقدرته على الكسب السريع فهذا أيضاً لا يشعر بقيمة ما يملكه إلا عندما يفقد صحته فيفقد ماله معه، وهناك من وصل إلى مرحلة تعود الثراء فالمال لا يمثل له قيمة أو لا يفكر فيه أصلاً، وهذا عندما ينصرف عنه المال يكون أمامه طريقان إما الموت كمداً أو الذهول جنوناً، وهناك صنف ناجٍ دائماً في معركة المال هو الشخص الذي يعلم أن هذا المال ليس ماله –قل أو كثر – إنما هو مستخلف على ما بين يديه من مال وهو في الحقيقة مستأمن عليه لإيصاله إلى غيره في دورة المال التي لا يعلم مداها إلا الله، وهنا تختل هذه الدورة عندما يعتقد أحدهم أنه يستطيع أن يحبس المال عنده ويكنزه لنفسه فقط، وهو لا يدري أن المال سيلعنه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
هكذا النفس البشرية كما خلقها الله تعالى، ميالة للجنوح بعيداً عن الطريق السوي وهو مرسوم بدقة ووضوح.
وتمل النفوس أيضاً من تكرار عمل ما بنفس الكيفية وبنفس التوقيت كل يوم، وأخرى لا ترى في ذلك غضاضة، والاثنان على حق، فدوران حركة عمار الكون تحتاج للاثنين، من يرضى بعمل تكراري مبرمج، يكون هو أداة في يد الغير ينفذ مآربه دون نقاش، وهناك من يبتكر ويفكر ويناقش ويتميز، ومن الخطأ أن نظن أن الصنف الأول فاشل وأن الآخر ناجح، فالمقياس هنا ليس منصفاً، فالحياة ودورة عمار الكون تحتاج للصنفين، تحتاج لمن يعملون بروتينية ورتابة بدون ملل أو كلل لضمان استمرارية حرفة ما مثال من ينظفون الشوارع يدوياً هل تطيق الحياة بدون جهدهم وعملهم الدؤوب، هل تستطيع الاستغناء عن طعامك الذي يزرعه الفلاح بنفس الطريقة منذ آلاف السنين بلا كلل أو ملل، هل تتخيل الحياة بدون جهد هؤلاء الروتينيين الرتيبين، لا أتخيل أن الحياة ستستقيم دونهم، وكذلك الصنف الآخر وهم المبدعون المفكرون المحطمون للرتابة والروتين وهم قلة في كل المجتمعات البشرية، و يزدهرون في المجتمعات التي تقدس العمل والزراعة والأعمال اليدوية، فالمجتمعات الحضارية التي يزرع فيها الناس ويتعلمون ويصنعون أدواتهم بأيديهم يحرك أمالهم واستمرارهم هذه القلة المبتكرة المفكرة التي تغذي أعمالهم بالأفكار الجديدة، ويختل ميزان المجتمعات عندما يتم الفصل بين المبدعين والعمال والفلاحين والصناع، فكان دأب الدول الاستعمارية على مدار العصور هو تفريغ الأمم التي يحتلونها من العقول النابهة عن قاعدتها العريضة فيسهل السيطرة على السواد الأعظم من الشعوب الذي يستسلم غالبا تحت وطأة تغييب المعرفة والمرض الذي يتفشى بشكل متعمد والفقر الذي يحرصون على تفاقمه لضمان الاستمرار في السيطرة، وبالطبع ليست هذه هي كل أدوات المستعمر.
أما ما لا تمله النفس مهما كثر فهو الحب، والحب ليس صنفاً واحداً غير قابل للملل، فالحب الأسمى والأعظم على الإطلاق هو حب الخالق، الذي يستتبعه انقياد وتسليم تام ورضا بكل ما يكتبه على الإنسان من مقادير، وهناك من يغالي فيه حتى ينحرف عن الهدف الأساسي منه وهناك من يبتعد عنه تماماً حتى يسقط في حب آخر مذموم يجره للرذائل، كحب النفس والشيطان وحب الشهوات والملذات، والحب المتوازن الذي يعتمد على التواصل المتواصل بين العبد وربه هو عماد الحياة السوية، وكثرة الحب في ما عدا حب الله هو كثرة تميل بالنفس نحو التفريط والاستهانة، فحب الرجل للمرأة لو غلب عليهما حياتهما انقلب لمرض لا يستطيعان البعد عنه، ويورث ضعفاً وتبعية لا تنبغي إلا أن تكون إلا بين العبد وربه، فتوازن الحب بين الرجل والمرأة يضبط إيقاع الحياة بينهما، واستعمال العقل أحيانا بينهما يصلح من شئونهما، وكذلك حتى لا تمله النفس التواقة للتغيير الدائم والجنوح للهروب من تبعات المسؤولية.
فإذا كان الحب هو العاطفة التي لا تمل النفس البشرية من كثرته، فشرط هذا أن يكون مقترناً بعطاء متبادل بين المحبين، إلا صنف واحد هو حب الأم لأبنائها، فالأم هي الوحيدة بين المحبين التي لا تنتظر مقابلا لحبها أبداً، بل تعطي كل ما لديها من حب وتتحين الفرصة تلو الأخرى لتمنح المزيد، حتى لو قوبل هذا بعقوق وجحود من الأبناء الذين يتلقون هذا الحب.
حتى في مخلوقات الله الأخرى تجد الحب بشكله الفطري المجرد من الأغراض، ففي قتال القطة من أجل أولادها حب، وقتل الدجاجة الأم لحية تريد التهام أفراخها حب، وقل الطيور للفئران والديدان لإطعام أبنائها حب، لا تمل الطيور أو الحيوانات من تقديم الحب الغريزي، وهي في الحقيقة لا تعلم أن ما تفعله حب ولكن تفعله مدفوعة لغرض وحكمة كبرى هي عمار الكون.
الإنسان هو الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يستخدم الحب في أغراض غير ما خلق من أجله، فمن الحب خرجت المصلحة والاتكالية والتواكل والانهزامية، بل والعبودية لغير الله بتسليم العقل للغير من البشر، فهذا كله مرفوض طالما كان ضد الهدف الأسمى من الحب وهو عمار الكون، وهو الهدف الذي خلق الله من أجله هذا الإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق