الجمعة، 18 مارس 2011

هل هي استعادة للأمجاد أم إعادة صناعة للوطن؟

مصر

لأول مرة منذ وعيت الحياة يقشعر جسدي عندما أسمع كلمة وطن, كنت كغيري - قد أصابتنا حالة من اللامبالاة بل و اليأس من كل شيء.

كنت كثيراً ما أتحدث مع أقراني عن الانتماء, و كنت دائماً ما أختلف معهم في توصيف الكلمة, فبعضهم كانت لديه بقايا من انتماء لوطن زائف ضاع وسط دوامات الصراع الذي خرج منه السكان الأصليون, و بعضهم اكتفى بانتمائه لعائلته أو الحي الذي يسكن فيه, و كان لي رأي آخر: أنا غير منتمي لأي من هؤلاء, و هذا ببساطة لأنني كنت أقرأ الواقع حولي جيداً, فلو أني انتميت لأي من هؤلاء وسط هذه المعطيات لكنت مخادعاً, فاقداً لمصداقيتي, بل و سأصبح خائناً للوطن.

نعم فمجرد إحساسك بالانتماء وسط هذه المعطيات هو خيانة للوطن, و ذلك لأن من معطيات الولاء لهذا الوضع معناه الموافقة الضمنية بما يحدث, موافقة على احتلال عقلك و وجدانك و اختراق لأمنك, فوجب تزكية الإحساس بعدم الانتماء حتى تبقى جذوة التمرد داخلي مشتعلة, و حتى يتمخض بعد ذلك عن هذا الوليد الذي هز بصراخه أركان الكون, و لم لا و هو صوت الحرية.

الحرية المسلوبة من مستعمر بكل أركان الكلمة من معاني, فلقد كنت أحس أن أمنياتي مُصادرة, آمالي مُصادرة, استولى عليها صنف من البشر لا قلب له, كل مواهبه أنه وصولي انتهازي, يعرف من أين تؤكل الكتف.

كانت المؤهلات التي تضمن لك مكانا في هذا الوضع كلها تصب في خراب هذا الوطن, خربوا كل شيء من لقمة العيش حتى الأحلام, مروراً بقتل الأمل في القلوب و تغييب العقول و محو الشخصية المصرية, حتى أصبحنا أضحوكة العالم, و مضرب المثل في البلاهة و عدم الاكتراث.

كنت أرى نظرات الآخرين خارج الوطن تجلدني بذنب لم أقترفه, يسبونني بوطني, حقاً لقد أصبح الوطن في وقت سبة لأهله, بل و كنت ما أتوارى دائماً خلف لهجة ساكني البلد الذي أعيش فيه, و أتدرب جيداً على طريقتهم في الكلام و التعامل و العادات حتى أتخلص من سبة لحقت بي دون ذنب إلا أنني ولدت على أرض هذا الوطن و أظلتني سماؤه.

كثيراً ما فكرت و بشكل جدي أن أهرب بعيداً حيث لا يعرفني أحد, و لكني لم أجد مكاناً لا يعرف وطني, كانت رائحتي تفضحني دائماً, كانت ملامحي تشي بي أينما ذهبت, حالة من الضياع و التيه في دوامة البحث عن الهوية كانت دائماً تعيدني إلى نقطة الصفر.

وطني كان مسروقاً محتلاً, و أسوأ أشكال الاحتلال أن تكون محتلا من بني جلدتك, عار أشد من احتلال الأغراب, فعندما يكون المحتل غريباً تجد كل الهمم تصب في كيفية انتزاع الوطن من مغتصبيه, لكن أن يكون الوطن محتلاً من بعض بنيه فهذه هي الخدعة الكبرى, فأنت لن تستطيع حتى أن تعلم أنك محتل, لأنه في هذه الحالة كالسرطان الذي يبدأ بخلية واحدة و يظل ينتشر و يتوغل في الجسد حتى يصبح الجسد كله معتلا, هذا ما حدث لوطني و هذا ما استوجب عملية جراحية لاستئصال هذا الورم.

عندما ارتفعت الأصوات تنادي أن كفى ذلاً و خنوعاً أيقنت أن مشرط الجراح قد بدأ في العمل, و بالطبع لن يستسلم المرض للشفاء من أول ضربة للمشرط, فكان العناد و الركون إلى السكينة الزائفة التي تحدث عند طول مدة المرض, فالإنسان يتعود على الألم بشكل تدريجي حتى يصبح الشفاء وجعاً أشد من المرض نفسه, و كان عناد الجسد في مواجهة الشفاء, جيش المرض جيوشه ليحارب من يريد أن يقض مضجعه و احتلاله للجسد, توالت ضربات الطبيب و كان المرض بالغباء بمكان أن عاون الجراح على نفسه, و كانت المعركة الكبرى.

معركة دارت رحاها, بين الكلمة و البارود, بين الانتماء الذي صحا ليزيح عن كاهله أدران السكينة المصطنعة و العنجهية و الفوقية, بين الحرية و القهر, بين الإصرار و الخضوع للشهوات, قالت الجماهير كلمتها و انتهت, و لكن لم يعجبهم أن تجرأوا على مقامهم المصطنع, كأن الحرية تستوجب إذناً من سالبيها لكي يستردها أصحابها, و كان لسان حال الطاغية يقول: ما هذا هل أذنت لكم؟ ألم أكن حاميكم و رازقكم, ألم أكن ربكم الأعلى.

و ردت جموع المقهورين بكلمة واحدة: لا نريدك....ارحل!

و كان يرد: إذا ما رحلت كما تريدون ستفقدون كل شيء سنحاول أن نصلح قليلا.

و ردت جموع المقهورين بكلمة واحدة: لا نريدك....ارحل!

و قال لهم: أيها المغرر بكم من أين جئتم بهذا الإصرار, أنا أمانكم ألم أنفق الكثير لتحييدكم و تهميشكم.

و ردت جموع المقهورين بكلمة واحدة: لا نريدك....ارحل!

فقال: هذا ليس بعدل, فلم أكتفي بعد من خضوعكم و خنوعكم و تسليمكم.

و ردت جموع المقهورين بكلمة واحدة: لا نريدك....ارحل

فتوارى بعدها يتلمس مكانا آمنا بعيداً عن غضب لا يعي من أين أتى بقوته, و أراد أن يتصدر المشهد وجه آخر من وجوه القبح و إن كان هذه المرة مبتسماً, أراد أن يهادن بطريقته و أن يدور حول هدف توحد و كلمة تعلو كل يوم و أحلام قررت أن لا تتوارى بعد الآن, و قوبل بصرامة السلم و قوة السكينة التي تولدت في القلوب, صدمته هذه القوة التي جاهد كثيراً في تحويلها إلى أثر بعد عين.

حقاً إن الباطل غبي, و بغبائه يصنع نجاحاً لمن يريده أن يتوارى, و أن تشرق شمس المجد مرة أخرى على هذا الوطن الجريح.

كنت كلما ارتفع النداء أجد قلبي يشتعل حماسة, و القشعريرة تسري في كل أوصالي حتى تصل إلى عيناي فتذرفان دمع الفخر و الحرية.

كان الله من فوق المشهد يبارك سعي الطامحين, أخيرا أدركت أن لراية الوطن ألوان لم أكن أدرك معناها قبل الآن, لم أكن أهتم كيف يكون ترتيبها, ذابت كل الفوارق و الألوان و أصبح المشهد يصطبغ بلون واحد هو لون الحرية.

كانت إعادة صياغة للوطن إذاً و صناعة وطن جديد ملهم بكل معاني الحرية.

إعادة صياغة لوطن غاب كثيراً في غياهب سجون الجهل و الغطرسة, وطن جديد يفخر بصانعيه.

يحق لكم الآن بنو وطني أن تفخروا بمجدٍ أنتم صنعتموه بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانية, مجد حير كل مدعي الحرية و المتشدقون في كل مكان, فأنتم الآن قلب العالم النابض بالحرية, فاحذروا أن يسرقكم حراس الجهل و الرجعية مرة أخرى.

اعلموا أنهم متربصون بكم يريدون أن يطفئوا شعلة الحرية مرة أخرى.

احذروا فلن يستسلم السرطان بسهولة, يجب اقتلاع جذوره من الجسد بالكامل و إلا نبت من جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق