ظلت تلتهم سطور رسالته ساعة، كلما قرأتها و انتهت عادت و قرأتها من جديد، لمحت صورته يحدثها من بين السطور، إنها صورة حبيبها الغائب منذ عام، زوجها و والد ابنها و كل أهلها، فلقد فقدت الأهل كلهم في ضربة واحدة موجعة من ضربات القدر، لم يفلت منها سواها، تربت يتيمة في بيت عمها و تزوجت منه بعد أن عاشا أحلى قصة حب يمكن أن يحياها اثنان، أجمل ما يمر على خيال الكتاب و الشعراء، فلقد أصبح بعد زواجهما -الذي أتم شهران بعد عام الغياب- كل حياتها.
مر على وضعها لطفلهما ثلاثة أشهر، و تعهدته بالرعاية و الحب حتى تحفظه جميلا بهياً لحبيبها، أرسلت صورته لحبيبها و ناشدته الرجوع، ثم عادت و قرأت رسالته مرة أخرى و هذه المرة انفلتت دمعة حائرة من عينها رغماً عنها، و سمعته يقول لها:
- حبيبتي..... أميرتي.....بل مليكتي، لا أستطيع أن أجد الكلمات التي تصف ما أحسه، قرة العين… مهجة النفس… بل روحي، بل كل هؤلاء و أزيد، أنت روح الحب و روح القلوب العطشى له في كل مكان و زمان، يا قبلة العشاق في كل الأمصار، المتربعة على عرش قلبي و وجداني، زهرة حياتي و عطرها، قمرها المتلألئ في سماء عمري، أحبك....أعد الثواني قبل الدقائق و الدقائق قبل الساعات منذ افترقنا، و ما زالت صورة لحظة الوداع تطاردني كلما أويت إلى فراشي بعد نهار ملئ بالمتاعب و الهموم، لم تغب عني لا في عملي و لا في نومي أو يقظتي، أحبك....
فجأة علا صوت الصغير يطلب أمه، فطوت الرسالة و تركتها على المنضدة و أسرعت تلبي نداء صغيرها, حملته بين ذراعيها، ثم دفعته إلى صدرها تعطيه حقه من غذائه و حبها و حنانها، رضع الصغير في نهم و هي في قمة سعادتها و فخرها، شبع الصغير و نام مستسلما بين يدي أمه، وضعته في فراشه ثم عادت تبحث عن رسالته، فلمحتها حيث تركتها فأسرعت إليها لكي تحتضنها.
دق جرس الباب فجأة و هي في منتصف الطريق إليها...تعجبت، و نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فوجدت عقاربها تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، ترددت...تملكها الرعب ....لم تجد في دماؤها نقطة واحدة حارة، دارت رأسها و هي تفكر سريعاً، و ضغط على أعصابها رنين الجرس مرة أخرى، لم تجد بداً أن تنطق على الأقل-وهو أخف الضررين- لتسأل من الطارق.
- نادت بصوت مبحوح مكتوم: من بالباب؟
ثم جاءها الصوت من خلف الباب ، فلم تصدق أذنيها في أول الأمر و هو يقول:
- افتحي الباب يا زوجتي الحبيبة إنه أنا
دارت الأرض بها و لم تستطع السيطرة على أفكارها و لا على أعضائها التي تحركت حركة آلية سريعة، ركضت بكل ما عندها من قوة ثلاثة خطوات أو أربعة و كانت أمام الباب، فتحت الباب بسرعة البرق، و أخيراً.......تسمر لبرهة، و استسلمت هي لمشاعرها كلها دفعة واحدة، ألقت بنفسها بين ذراعيه، و كاد أن يسقط هو من قوة الاصطدام ، لم تقل هي غير كلمة واحدة قبل أن يغشى عليها:
- هو أنت حقاً !!
حملها و دخل بها وضعها على أريكة غرفة الاستقبال، و أخذ يربت على خدها برفق و حنان, حتى أفاقت, و ما إن فتحت عيناها و رأته حتى هبت من على الأريكة كمن لدغته حية, تعلقت برقبته تشده إليها في رقة، تتحسس شعره الأسود الناعم، تتحسس وجهه بأناملها الرقيقة، كأنها تتأكد أنه ليس حلماً أو أنها مازالت تقرأ رسالته، رمقت الرسالة بعينها فوجدتها مازالت مطوية، فتأكدت أخيراً أنها الحقيقة، هو الذي بين يديها الآن، لم تملك لحظتها إلا الدموع لتعبر بها عن ما فاض من روحها و قلبها من حب و أشواق كانت مخزون تلك الشهور الماضية, و كأن جبلاً من الجليد قد ذاب فجأة فأنعشها ماؤه المثلج الذي انهمر كشلال يبرد قلبها الذي احترق شوقاً و لهفة عليه.
لم ينطق هو بكلمة واحده و لكنه أطال التحديق في عينيها، و أخرج منديله يجفف دموعها من على وجنتيها الناصعتان البياض، وضع وجهها بين كفيه يقربها منه تبحث شفتاه عن شفتيها كالوليد يبحث عن صدر أمه، حتى التقيا في عناق حار لا يعلما كم استمر، ما قطع مراسم استقبال حبيبها إلا صراخ وليدهما، كأنه أحس بعودة أبيه، فأخذ يعلن عن نفسه و يناديه لينل حظه من الحب، فانتبها....اقتلعا نفسيهما من أرض النشوة، و قفزا يتسابقان لغرفته، هو يريد أن يرى ثمرة حبهما، وهي تريد أن تريه كم هي جملته و هيأته ليكون في شرف استقباله، سبقته بخطوة و حملة الصغير ترفعه نحوه، و ما إن وقع نظره عليه سكت عن الصراخ، كأن مهمة الصراخ قد انتهت، أعلن عن نفسه و رحب بأبيه و لكن بطريقته الخاصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق