حلم النقاء طالما راودني، أبحث عنه في الطرقات، بين عيون الناس، في أنفاسهم، في عينيها...أبحث عن عرائسي اللاتي يستحممن في غديرها النقي، يتوارين عن عيون المتلصصين، ترقب وصول جوادي الأبيض؛ حتى يحملهن جميعاً على جناحيه و يطير بعيداً بعيدا.
هكذا حلمي، و جاوبتني السماء، لا أستطيع أن أتركهن بلا غطاء يحميهن من برد الشتاء، فشتاؤك قد طال سنينا, و الدفء يأبى أن يتسرب إلى أناملك الخشبية، أيا مسكين....أكل هذا جليد يكسوك؟ سأستدعي الوهج المتألق في آتون الحياة المستعرة بالنيران الأبدية لألقيك فيها، ستنقشع سحاباتي و تمزقها الرياح الآتية من الجنوب، من حيث تسكن روحك، قم و افتح أزرار قميصك و أطلقها، دعها تكشف عما وراء تلك السحابات الغبيات الكاتمات، قم و ابتعث فالعمر قد ولى، و تناغمت الأرض معها في سيمفونية صامتة، تموج تحت قدمي أعاصير الغضب الأشيب الذي ينذرني بقرب اللقاء، دمدمت في نفسي رياح لا أعلمها، تتصارع، فتحت أزرار قميصي فخرجت دفعة منها تنطلق كالسهام، و الغضب الأشيب خفت حدة همهمته، انطلقت السهام من صدري من نبال قد تمزقت أوتارها صوب الغمام و السحب الركامية المتخمة بالمياه، شقتها، تعاونت و تكاتفت على تمزيقها، ثم طلبت العون مني، ففتحت لها آخر أزرار قميصي، و لم أدع لها مجالاً للخوف، أمطرت السماء فتطهرت أوديتي، نبت فيها زرع أخضر مورق مزهر يتألق.
ثم عادت الشمس بعد أن غابت سنينا، لا كما كانت، و لكنها اليوم تلبس ثوباً جديداُ، ثوب الربيع و دفئه الذي أرق حلمي و سَهّرَ لياليّ، هاهو يأتي ليمزق آخر قطعة من قميصي، و يحرقه في بوتقة ليصنع منه تمثالاً أبيض، نحتته قطرات المطر المنهمر من بكاء السماء، و ما إن اكتمل التمثال حتى تحول المطر إلى قطرات كرزاز الندى في صباح يوم الربيع على خدود الأزهار.
لا أدري كم استمر هبوط تلك القطرات قبل أن تستدعي السماء قوى الغضب الكامنة في سحبها الركامية مرة أخرى حتى تفسح المجال للشتاء ليعود من جديد, ثم عدت أنتظر حلم النقاء الذي طالما راودني كثيرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق