لا حيلة لي في ما يحدث حولي، فلست مركز الكون، إنما أنا شخص عادي، إنسان... مجرد إنسان
تترقبني العيون حولي، تنتظر مني شيئا مدهشاً، لا أدري لماذا؟ فأنا لا أملك مقومات الإدهاش، و مع ذلك يلح علي الجميع أن أكون.
كنت عندما أخرج من بيتي كل يوم، لا أدري إلى أين أذهب، فدائماً ما انتهي إلى المقعد المخصص لي خلف أحد المكاتب الحقيرة في إحدى المصالح الحكومية.
كنت أخرج كل يوم....نعم...و لكني لم أكن أخرج حقاً، أرى وجوهاً كثيرة مختلفة....بل متباينة الملامح, حاولت أن أغوص داخلها و لكني لم أستطع، كل يوم و في نفس الموعد المحدد أعود إلى بيتي فأجدني منتظراً عودتي، لم أحاول أن أكسر هذه القوقعة يوماً فضاقت علىّ جداً.
عندما كنت صغيراً كنت أكره أن يصدر إلىّ أحد أمرا، و دائماً لم أكن أطيع حتى و لو كان الأمر لصالحي، عنيد....يمكن أن تكون هذه هي الصفة الصحيحة التي تصفني بدقة، و لكني أعتز بكل قراراتي، لا أريد أن يملى أحد عليّ أرادته، أن أفعل ما يريد أو أن أقول ما يريد.
قررت العمل فهاجت الدنيا، و لكني نفذت ما قررت رغم أنف الجميع، قررت السفر فهاجت الدنيا، و لكني سافرت، كان قلبي هو الوحيد الذي أقبل قراراته و أوامره بدون تفكير.
كنت في أول سنين الشباب عندما التقينا، قال الجميع: مشاعرٌ مختلطة، و ليست حبا، و كنا وحدنا نعلم أنه الحب، ذلك لأنه كان محكوما عليه بالفشل، فكل المستحيلات اجتمعت لتفريقنا، كنا راضين بهذا؛ لعلمنا أن الحب الحقيقي هو هذا الذي لا يستمر للنهاية.
هكذا طويت صفحة لا تتكرر، تكسرت قدماي فسقطت، أصابني الدوار و أنا أراها في ثياب العرس و إلى جوارها شخص لا تراه، لا تشعر بوجوده، فعيناها تحلقان بعيداً تبحثان عن قلبي بين الحضور.
ثم أسلمت نفسي للإعصار، و قررت الرحيل هرباً من نفسي....لا...بل هرباً من قلبي، لم أكن أدر أنه يلازمني في حقيبة سفري بين أوراقي و ملابسي كان قابعا ينزف، كان معلقا بين أحلام الماضي و آمال المستقبل، أما الحاضر...فليس من اهتماماته، إذن سأتعامل من هذا المنطق، نظرت إليه مرة أخيرة ثم أغلقت الحقيبة.
اعمل لتأكل...ثم تموت..هكذا، حتى من يتحدثون بلغتك الذين يجاورون أهلك في أرض العودة هم أيضاً يتنكرون لك، لا يسجدون إلا لأوراق البنكنوت، كفروا بكل شيء في سبيله، تبخرت كل همومي القديمة و تبدلت بهموم جديدة.
أين ملابسي؟ سرقوها....نعم عبث أحدهم بحقيبتي و سرق ما فيها، أين قلبي؟ .... لقد سُرق هو الآخر مع ملابسي القديمة، إذن لابد من شراء ملابس جديدة، و بالطبع تغيير المكان....فالغربة لا تعرف الثبات، كل الأماكن غريبة، كل الأشخاص غرباء، و لكن هل سأشتري قلباً جديداً؟
تعبت... سرت كثيرا، قطعت أميالاً طويلة في الوجوه و الحقائق التي تغيرت كثيراً، فرضت على نفسي القوانين الجديدة التي تحكم الآن، صارعت الأيام لكني لم استطع صرعها، وضعتني بين فكي الرحى الجديدة حتى تختبرني، و كنت عند حسن ظنها فالعظام الجديدة؛ و التي أكسبتها الشمس قوتها كسرت الرحى، و حولتها لكومة من الرمال, و بين الصواريخ الطائشة و أزيز الطائرات و هدير المركبات كانت البداية الجديدة في رحلتي.
صارعت الموت إلى حين، لم أصدق أني قد نجوت و أفلت منه بأعجوبة، عندما عبرت حدود الحقيقة وجدت ملابسي قد تمزقت و أثار خمش الأيام في ظهري دامٍ ينزف.
لهثت من الركض، لهثت حتى جف حلقي، بل جف الماء تحت جلدي، و عدت لنقطة البداية، لنقطة الصفر.
ها أنا ذا أصل لأرض الأحلام و الصبا خالي الوفاض بلا ملامح محددة.... بلا ملابس..... بلا قلب.
شهر....شهران...ربما ستة أشهر مرت، و أنا مازلت أبحث عن ثياب جديدة، أركض هنا و هناك...أبحث عن رائحة الماضي بين طيات الأوراق القديمة.....هل سأجد قلبي؟ و لكنها أنبأتني أن قلبي ذهب و لن يعود أبدا، فلعلك تدرك هذا و تنطلق إلى معاركك القادمة بلا قلبٍ يجرك لذكريات طويت و لن تعود.
لكني و بلا تفكير أجدني طائرا في سماء الأحلام القادمة من جديد، آن أوان البحث عن الحقيقة من جديد، و لكني سأدير حلمي بنفسي هذه المرة، سأبحث عن نفسي و لن أستعين بأحد، لم أعد بحاجة لأن تسرق ملابسي مرة أخرى حتى أحتاط.....طردت من رأسي كل أسباب الضعف، قررت أن ألبس ملابس الحرب لأفوز.
في هذه المرة فزت كما يفوز من يحمل سلاحاً. لقد روضت النمر، حللت تلك المعادلة الصعبة، و لكن لم يرضيني هذا الفوز تماماً، لكنه فوز على أية حال....ثم عدت كما أعود دائماُ إلى جذوري و لكن هذه المرة بملامح محددة أشد صرامة و حزما.
حاولت أن أغوص داخل القلوب التي تراقبني، و لكني لم أفلح، فهربت مرة أخرى.
تنازعني ميل لرائحة الماضي عندما مر عليّ طائفٌ من حسنها في الوجوه التي تعرض عليّ، و لكنها لم تعد إليّ قلبي الذي ضاع.
نعم هربت مرة أخيرة، هربت لأضع في رقبتي طوق لذيذ يناسبني تماماً، هكذا توهمت، حتى الطوق كان مشروطاً، يحدد حركتي...يعد أنفاسي، عندما وضعته كان واسعاً فضفاضاً، حتى أنه كان يتسع لنصفي الآخر معي، ثم تبدلت الملامح التي اختبأ خلفها النصف الآخر، مع مرور الوقت تأكد أنه فاز بوضع الطوق حول عنقي و ظهر باطن كان يخفيه حتى الموعد المحدد سلفا.....حاولت أن أرقع الثوب مرات و مرات حتى احترقت كل خلايا جسدي، ضاق الطوق بشدة حتى أنه يخنقني.
آه...كم أنا مكبلٌ...كم أنا قليل...وحيد.
تنسحب الأيام من ساحتي، ويمضي قطار العمر مسرعاً نحو محطته الأخيرة، عندما بدأت الرحلة كنت أدرك النهاية.....كل هذه الأعوام الرمادية تجمعت لتحجب عني شمس البداية، لم يتبق لي إلا ضوء خافت لا أستطيع الإبصار معه، أحس الآن بالوهن الضعيف، لقد حاربت كثيرا حتى تعبت، كلّت يدي و تعبت السيوف، و اكتشفت أخيرا أنني غير جدير بالمعارك و لا بحمل السيوف، نعم أحس بالوهن الشديد فجسدي كله مخدّر لا أحس بقدمي الآن، أرى كل شيء بوضوح و جلاء الآن، أسمع أصواتًا لا تُسمع و أري أشياءً لا ترى، هي النهاية إذن، نعم هي النهاية ألم شديد بلا صراخ، الضوء يخفت حولي شيئاً فشيئاً...عيناي تغلقان رغماً عني....لا أستطيـع الكلام......انه المو......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق