من يشاهد الصورة التي تكونت الآن في أرجاء المحروسة عليه أن يكون أحد اثنين, أولهما ما نحن نريده جميعاً إلا قليلا, و هو الاستقرار و العيش بحرية و رغد, و الثاني هو من يريد الصورة المعاكسة تماما.
دعونا نتأمل قليلاً الصورة عن قرب.
النظام البائد –وعلى مدار عقود تعدت الخمسة- جرف البلاد من كل مقدراتها, اتبعت الأنظمة المتعاقبة على هذا الوطن نفس أسلوب المحتل, و كان شعارهم –كما كان شعار الاستعمار من قبل- "فرق تسد", كان خوف الاستعمار من اتحاد الشعوب و تماسكها الداخلي و من ثم تماسكها مع بعضها البعض شيئاً ضرورياً لبسط السلطة و النفوذ على الأوطان المحتلة, و لمّا كان هذا ضد كل القوانين الإلاهية و النظريات المنطقية للتعامل مع البشر فقد فشلت الدول الاستعمارية في كبح جماح الحرية المنشودة للشعوب, مارس الاحتلال كل ألوان الإذلال و التعسف تجاه الشعوب التي ابتليت بهم, و كان للاحتلال سبب وجيه بشكل ما, و هو الحفاظ على مصالحه و سيطرته على مقدرات تلك الشعوب, بل و هناك بعد آخر للاحتلال لم يظهره علانية بالطبع, و هو محو حضارات تلك الشعوب و نسبها لبلادهم الأصلية التي جاءوا منها, و الدليل هو ما فعله الاحتلال الانجليزي من سرقة لآثار و كنوز مصر أثناء احتلالها و تضخيم دورهم في الكشف عن هذه الآثار, و حذا حذوهم الفرنسيون و الإيطاليون, عند احتلالهم للعديد من دول العرب و غير العرب.
و نعود لوجه الشبه بين تلك الأنظمة التي حكمت الدول المستقلة عن الاحتلال و بين الاحتلال نفسه:
الاحتلال: مارس كبت الحريات و اعتقل كل معارضيه من كافة الطوائف
الاحتلال: نهب ثروات البلاد و رحلها بعيدا حيث البنوك الدافئة في دولتهم الام
الاحتلال: حارب التعليم و نشر الجهل و الخرافات بين عوام الشعوب لإلهائهم و تغييب عقولهم
الاحتلال: هجر النابهين من أبناء الأوطان المحتلة إما استقطاباً لهم في الدولة الأم أو النفي القسري أو حتى الاغتيال
الاحتلال: سرق حضارات الشعوب و نسبها لنفسه في تحد صارخ للتاريخ
و الأنظمة ماذا فعلت
و سنتحدث عن النظام المصري كمثال
في عهد ثورة يوليو 1952 كانت مصر حديثة العهد باستقلالها و كان التأثير النفسي و الاقتصادي مازال مسيطرا على المشهد المصري, و كانت تصرفات رجال الثورة نتيجة طبيعية لمن خرج من حبس طويل و فاجأته الحرية فلم يحسن استخدامها, و كانت المفاجأة أكبر من استيعاب مفجري الثورة أنفسهم, فجأة أصبح مجموعة من ضباط الجيش مسؤولون عن بلد كبير بحجم و ثقل مصر الحضاري, كانوا في أول عهدهم لا يبغون إلا الانتقال من عصور الاستبداد إلى عصور الحرية التي يستحقها شعب مصر العظيم, و لكن – و بعد مرور زمن ليس بالطويل- أعجبت الثورة بالسلطة و كانت هي أول من أكل مفجروها, ناهيك عن تصفية معارضيها, و تم إقصاء العديد و العديد من رموز التحرر, و بدأت حملة منظمة من الترهيب و الاعتقالات, و بالتوازي بدأت حملة نفسية لتهيئة العقل الجمعي للشعب بالكامل لتقبل الوضع الراهن, بل و الدفاع عنه أيضاً, مستخدماً ألفاظ و عبارات رنانة تدغدغ مشاعر دفينة داخل نفوس الأحرار دائما "الحرية, القومية" و غيرها من الشعارات التي جرت البلاد في حروب خارج الوطن من أجل نشر هذه الأفكار بدعوى تحرير الشعوب العربية و توحدها نحو هدف واحد لم و لن يتحقق بطريقة فرض الأمر الواقع, و لقد ابتدعت منظمة إقليمية لهذا الغرض "الجامعة العربية" و لم تحقق الغرض من إنشاؤها حتى وقتنا هذا.
بالطبع لن يعجب الكثيرون هذا, و سترى المدافعون عن هذا العهد بالغالي و النفيس, و لهذا أسألهم ماذا حقق لنا كعرب...هل توحدنا أم ازددنا فرقة؟ هل جعلتم الشعوب العربية متحابة متكاتفة متكافلة؟ لا أظن هذا, فما نراه الآن عكس الصورة تماماً.
ثم تغيرت الصورة قليلا بتغير الحاكم, ذهب حاكم متفرد بكل السلطات إلى حاكم أقل قليلا في سلطاته, و هذا رغما عنه, فلقد ربى الجيل الأول صبيانه جيدا و عرفوا الطريق السريع و القوي للسلطة و النفوذ و المال أيضا, و جاء الخليفة أضعف بمقاييس المنتفعين, و استطاعوا التحكم فيه و استمر قمع الحريات و زج الناس بسجون الرأي, حتى نفض عن كتفيه الغبار قليلا بثورة لتصحيح المسار الثوري المعوج بفعل ممارسات من سبقه, و كان له من الهموم الخارجية الكثير, فكان على عاتقه تصيح مسار آخر, و هو طرد الاحتلال من أرض الوطن و الذي استحل ترابه نتيجة لعنترية من سبقه, و لأن الدرس كان قاسيا للمحتل و للوطن, حاول أن يجنب الوطن ويلات مغامرة يقوم بها أحد يأتي من بعده, فوافق أن يتعاهد مع الشيطان ألا يوسوس في صدور الناس, اتفاقية مع الذئب لحراسة الغنم, و كانت اللحظة التي هدم فيها صنم كبير نحته سابقه, الوحدة العربية المزعومة- أصبحت الآن أثرا بعد عين.
أسهمت تلك الاتفاقية في ترسيخ الفرقة الموجودة فعلا بين الأشقاء, انفض الجميع عن مصر, و اشتعل الداخل غضباً, فأراد ان يطفئ النار و لكنه للأسف كان يسكب عليها المزيد من الزيت, و كانت النهاية الغير مسبوقة.
ثم تسلم الزمام من لا يقفه شيئا عن كيفية تسيير أمور هذا الوطن الكبير المتخم بالمشاكل التي لم يعرف أبعادها, و بدأ بمغازلة الجميع, في الداخل أعلن أن لا معتقلات و لا فساد إداري أو مادي, و ان "الكفن بلا جيوب"!, بالطبع لم يرضى تلاميذ ابليس بهذا التحجيم – و كانوا قد تمرسوا على فنون القمع و الفساد- غيروا مخططاتهم فبدأوا منهجا منظماً في جره هو أولا لمعسكرهم, و بالتوازي ترسيخ مفاهيم الأسطورة عند الجموع التواقة للرمز كطبيعة شعب خرج لتوه من حقب استعمارية و كان الرمز هو المخلص, و لما كانت هذه النزعة قد بدأت في الخفوت فما كان منهم إلا أن زادوا من جرعة إشعالها مرة أخرى في النفوس, أوهموه أنه البطل الذي لا يشق له غبار, و وافق هو و وافق الجميع, بالطبع فهم مستفيدون, و كان التعتيم على العقول في بادئ الأمر و مصادرة الآراء بطريقة ناعمة, ثم ما لبثت أن تتحول لقبضة حديدة بعد أن رسخ الزبانية أركان النظرية الاستعمارية مرة أخرى.
فالنظام: مارس كبت الحريات و اعتقل كل معارضيه من كافة الطوائف
و النظام: : نهب ثروات البلاد و رحلها بعيدا حيث البنوك الدافئة في دول الاستعمار.
النظام: حارب التعليم و نشر الجهل و الخرافات بين عوام الشعوب لإلهائهم و تغييب عقولهم.
النظام: هجر النابهين من أبناء الوطن بإجبارهم –بالإهمال- على الهجرة خارج الوطن
النظام: مارس التجويع و التهميش, بمبدأ ان المعدة الفارغة لا تعطي فرصة للعقل أن يعمل, السعي الدائم و اللهاث وراء سد الجوع و الخوف الدائم من المستقبل
هكذا تفوق النظام الحاكم في مصر على الاحتلال في إذلال الشعب
و لكن هيهات فالحرية مرض مزمن في قلوب الأحرار لا يرجون شفاؤه أبداً....
خرجت الملايين بعد ان أيقنوا أن المنهج لن يتغير, و أن المؤامرة تعجب الحاكم, و انه يستعذب آلام البشر, خنع لأهواء الشياطين حتى أصبح كبيرهم فلا يلومن إلا نفسه, فلقد أراد الشعب الحياة و كانت استجابة القدر
لك الله يا وطني, لك الله يا مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق