الجمعة، 5 أغسطس 2011

رئيس بالصدفة يحكم ثلاثة عقود بقانون الطوارئ ويتنحى بعد خراب مالطة


الأربعاء 14 أكتوبر 1981 وبعد استفتاء شعبى خرج بنتيجة تأييد 98.46% لاختيار محمد حسنى مبارك رئيساً للجمهورية.. وقف مبارك وإلى يمينه الرئيس السودانى جعفر نميرى، وإلى يساره الدكتور صوفى أبو طالب رئيس مجلس الشعب.. وتلا اليمين الدستورية لتبدأ فترته الرئاسية الأولى.. وبدأ عهد مبارك الذى لم يكن يتوقع أحد أن يستمر 30 عاما وينتهى نهاية دراماتيكية نادرة.. وفى يوم الجمعة 11 فبراير 2011 كان نائب الرئيس عمر سليمان يعلن تنحى مبارك عن منصبه وأنه فوض المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.
عمر سليمان أول وآخر نائب لمبارك طوال 30 عاما، واستمر نائبا لمدة 12 يوما فقط، حيث ظل مبارك يقاوم تعيين أى نائب له بحجج مثل أنه لا يجد الرجل المناسب، وهو الذى تولى رئاسة مصر بمصادفة بعد اغتيال الرئيس السابق أنور السادات.. وكان يومى 6 أكتوبر 1981، و11 فبراير 2011 هما أطول يومين فى حياة الرجل الذى بقى فى السلطة السياسية 36 عاماً منذ تعيينه نائباً عام 1975 وبعد 6 سنوات أصبح رئيساً لأكبر دولة عربية، ولم يكن يتوقع أن يعينه السادات نائبا، وقال لعماد أديب إنه كان يتوقع أن يعينه السادات سفيرا فى لندن "بلد الاكسلانسات"، لكنه فوجئ به يختاره نائبا له.. ولم يتصور لا هو و لا غيره أنه سوف يستمر كل هذا الوقت ويجنى ثمار سنوات من الحروب والصراعات الداخلية والخارجية الباردة والساخنة.. كان واحدا من أطول الحكام الذين حكموا مصر بالمصادفة، حتى تحول إلى أسطورة فى الاستمرار والبقاء.
كان مبارك أفضل حظا من سابقيه ومن معاصريه، لم يسقط نظامه بالغزو مثلما جرى لصدام حسين فى العراق، ولم يغتل مثل خالد فى السعودية ولم يصبه السرطان كالملك حسين، وبدا أسطوريا مثل سلحفاة، ترددت فى نكات أيامه الأخيرة، حيث قدموا له فى عيد مولده سلحفاة، قالوا له إنها تعيش 300 عام، فرد "هنشوف" لم يقابل عبد الحكيم عامر لينافسه ولا دخل فى حروب أو صراعات. وتجلت مواهبه فى التعامل مع الأمر الواقع إما بالتجاهل أو بالآخرين.. رجل متوسط بلا طموحات إقليمية أو تاريخية، لا يحب التاريخ ولا السياسة، ربما لهذا انتصر على الجميع، وبقى حتى شعر الآخرون بالملل، أما هو فلم يبد أى شعور بالضجر من طول المكوث فى كرسى الرئاسة.
ديكتاتور من نوع خاص لم يكن دموياً للدرجة التى تجر عليه الغضب الدولى أو العالمى، لا يتمسك بموقف حاد ضد الولايات المتحدة التى يعتبرها صاحبة القرار الأول فى العالم، وكلما أخطأ الآخرون خرج منتصرا ليعلن ألم أقل لكم؟.. لم يسرف فى شىء ولم يسع لشىء، وظل ساكنا كجلد ثعبان، يحافظ على صحته وأمنه، هما الشيئان اللذان مكناه من الاستقرار فى الحكم لم يجاوزه سوى رمسيس الثانى وبعض ملوك الفراعنة المشكوك فى فتراتهم.
لم يتخذ قرار حرب إلا إذا كانت حربا داخلية ضد خصم منافس أو جماعة مسلحة تهدد أمنه الشخصى، ساعتها يسمح بالانتقام للدرجة التى تحفظ له وجوده. خشن بلا قسوة ظاهرة. لم يكن طموحا للسلطة كعبد الناصر ولا مجنونا بالأضواء كالسادات، انتصر عليهما فى لعبة الزمن.
تعرف على السياسة بمفهومها الشائع وهو فى الخمسين من عمره، ولم يدرك خطرها أو لذتها، تعامل معها مثلما يتعامل موظف مع وظيفته، يحافظ عليها، ولم يسمح للآخرين باستخدامها خارج سياقه، تصور الكثيرون أنه "عبيط" لكن الأيام الطويلة التى قضاها أثبتت أنه كان الأكثر دهاءً ممن حوله، دهاء لم يمكنه من العمل الجيد أو محاولة لعب دور إقليمى، حافظ على الدور الإقليمى لمصر فى النطاق الذى لا يجعلها دولة مهمة أو نكرة.. لكنه انخفض بالكثير من الأشياء، حفظ التوازن بين الفقراء والأغنياء بالأمن والإجراءات الأمنية.
بعد أن أصبح رئيسا عرض مبارك على الشعب ملامح سياسته. ودمعت عيناه وهو يقول إنه لم يدُر بخلده لحظة واحدة ما شاءت به إرادة الله أن يقف هذا الموقف بعد السادات وبالصورة التى جرت بها الأمور.. "ولكن هكذا جاء قدرى أن أقف أمامكم فى غيبته".
مبارك المطرود المطارد فى شرم الشيخ يمثل عبئا على مصر بشهدائها ومجلسها العسكرى ربما يستعيد تاريخ أعوامه الثلاثين فى السلطة، ومثل أى ديكتاتور عجوز لا يصدق أنه ارتكب من الأخطاء ما يكفى لمحاكمته. لم يكن مهتما بقراءة الصحف أو متابعة الفضائيات. أو الانتقادات التى توجه إليه، كان يعتبرها بلا قيمة. طالما يرى من حوله يدور حوله. كانت أفكاره البسيطة تتحول إلى تعليمات الرئيس.
حسنى مبارك لم يتعلم شيئا من الرئيس السابق أنور السادات. الذى كان كما كتب الرحل أحمد بهاء الدين يرفض قراءة الصحف أو الاستماع للإذاعات، ويعتبر متابعة الأخبار سببا فى مقتل جمال عبد الناصر. ويفضل ملخصات التقارير، ويتخذ القرارات بناء عليها. مبارك جرب وصفة السادات وتوقف عن قراءة الصحف أو الاهتمام بها، وصدق التقارير الأمنية، جرب أن يكون رئيسا لثلاثين عاما، دون الحاجة لتغيير عاداته فى النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا وعدم قراءة الصحف أو الاهتمام بمعارضيه. وحتى عندما جاءته الإشارات من تونس كان متأكدا أنه سيواصل رئاسته "حتى آخر نفس". لم يصدق أن كل من كانوا يسبحون باسمه، ويمتدحون اشتياقه "لطشة الملوخية"، انقلبوا وأصبحوا يبالغون فى مهاجمته واتهامه بأنه سبب كل البلاوى.
مبارك لم يكن يقرأ واعتاد طوال ثلاثين عاما أن يتجاهل ما يقوله خصومه، يسخر من منتقديه. كان يصدق فيلم طباخ الرئيس أكثر مما يصدق طباخه، نجح طوال ثلاثين عاما فى أن يحافظ على نظامه دون أن يلتفت للثقوب والتسربات. وتهاوى فى أقل من خمسة عشر يوما. تاركا نصف الشعب فقيرا وثلثه مريض، وتحت خطوط الفقر. وهؤلاء لم يكن ذكرهم يرد فى ملخصات التقارير، ولا فى اجتماعات أجهزة الأمن. ومع هذا كان يؤمن أنه عبقرى، ولا يرى من يصلح للحكم بعده.
ربما يجد مبارك الوقت ليقرأ ما فاته من صحف وأخبار ليعرف كيف يكون حال الرؤساء السابقين الذين خلعتهم شعوبهم. ولهذا أفاق على الانهيار.
ثلاثون عاما نستعرضها عاما بعد آخر لنعيد قراءة المشهد كما يفترض أن يراه الرئيس المخلوع، الذى يشبه ديكتاتورات العبقرى الكولمبى جابريل جارسيا ماركيز" فى خريف البطريرك، وحيدين يشعرون بالبرد ويحلمون بمصادفة تعيدهم إلى الكرسى الذى قتلوا وسرقوا من أجله. هل كانت بدايات مبارك تشير إلى نهاياته؟
قبل أن يقسم مبارك القسم الجمهورى يوم الأربعاء 14 أكتوبر 1981 كاتن قد قطع 6 سنوات نائبا للرئيس السادات، ورفض طوال 30 عاما أن يعين نائبا له. وهو أمر فسره خصومه بعد تنحيه أنه لسبب ما أو علاقة تربطه باغتيال السادات.عامه الأول فى الحكم بدا يوم الخامس من سبتمبر 1981.
الثلاثاء 6 أكتوبر 1981 كانت مصر تعوم على بحيرة من التوتر والبارود، شهر على اعتقالات سبتمبر، التى شملت حوالى 3 آلاف شخص من جميع التيارات والاتجاهات. يوم 5 أكتوبر أدلى الرئيس أنور السادات بحديث لمراسل مجلة دير شبيجل الألمانية قال فيه "أكبر آمالى أن أتخلى عن الحكم وأكتفى برئاسة الحزب وأترك الحكم لمن هو أكثر شباباً وحيوية.. وحسنى مبارك يعرف أفكارى تماماً.. وهو قادر على أن يعبر عن وجهة نظرى.. وقد تمرس فى السياسة و الحكم".
بعد الإفطار أجرى السادات اتصالات مع ابنه جمال فى أمريكا ومع صديقيه عثمان أحمد عثمان وسيد مرعى.. ومدير المخابرات العامة.. ونائبه ووزير الداخلية وأمين عام الحزب الوطنى وارتدى ملابسه ونزل ليجد نائبه مبارك ووزير دفاعه محمد عبد الحليم أبو غزالة فى انتظاره.. توجهوا لوضع إكليل الزهور على قبر الجندى المجهول. واتجهوا للعرض العسكرى، أثناء العرض العسكرى تحدث السادات مع مبارك على يمينه وأبو غزالة على يساره..عن تنظيم احتفالات ضخمة فى 25 إبريل 1982 اليوم المقرر لاستعادة سيناء.. لكن بعد لحظات أثناء عرض للطيران تحولت المنصة إلى مرمى لنيران خالد الإسلامبولى وزملائه سقط الرئيس السادات مضرجا فى دمائه.
أقلعت طائرة هليكوبتر من أمام المنصة تحمل الرئيس أنور السادات إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى.. وانطلقت سيارة عسكرية تحمل نائب الرئيس إلى المستشفى.. مبارك شاهد السادات مسجى وقد فارق الحياة.. طلبت جيهان السادات رؤية مبارك..وقالت له:". مصر هى الأبقى.. أرجو أن تلتفت إلى مصر..وتجمع وزراءك وتدير شؤون الدولة..أرجوك". قال لها " متقوليش كده". لكنه أسرع لمنزله فى مصر الجديدة وضُمِدَت يده. بدل ملابسه العسكرية وارتدى بدلة داكنة. وسارع لحضور جلسة طارئة للحكومة لم تتجاوز نصف الساعة وأيد الوزراء ترشيح مبارك رئيساً للجمهورية .
تحدث فيها مبارك عما حدث فى المنصة لصحيفة "مايو" فى 18 أكتوبر 1981 " عندما أيقنت من يأس الطب وعجزه عن إنقاذ الرئيس فكرت فى الانسحاب.. لم تكن لدى رغبة فى تولى المسؤولية من بعده..والرئيس رحمه الله كان يعرف ذلك.. كثيراً ما أكدت له أننى لن أبقى فى موقعى إذا فكرّ فى ترك موقعه.. ثم فكرت فى مصر..فى الأخطار التى تحيط بها وفى الظروف التى تواجهها هذه الأيام..وعقدت مجلس الوزراء.. طلبوا عقد المكتب السياسى للحزب الوطنى لاختيار شخص رئيس الجمهورية القادم..طلبت أن يجتمع المكتب فى اليوم التالى لكنهم أصروا على عقده فوراً. اجتمع المكتب السياسي. وأصروا جميعاً على اختيار شخصى لرئاسة الجمهورية..وكان رأيهم أننى أستطيع أن أحفظ للبلاد وحدتها وأوفر لها أمنها واستقرارها." وكان استقرارا اكثر من اللازم.
وبعد ساعات نعى السادات "يعجز لسانى وقد اختنق بما تموج به مشاعرى أن أنعى إلى الأمة المصرية والشعوب العربية والإسلامية والعالم كله الزعيم المناضل البطل أنور السادات".
بعد استفتاء بنسبة 98.46% تم اختيار محمد حسنى مبارك رئيساً للجمهورية.. وبعد أربعة أيام فى 18 أكتوبر صباح عيد الأضحى هاجم أعضاء الجهاد فى أسيوط مبنى مديرية الأمن. واستولوا على سيارة للأمن المركزى وأسلحة وقتلوا جنود وضباط.. لكن قوات الأمن استقدمت تعزيزات وتمكنت من السيطرة على الموقف أصيب عصام دربالة وعلى الشريف قائد المجموعة التى هاجمت مديرية الأمن وعاصم عبد الماجد وكرم زهدي.. وألقى القبض على باقى أفراد المجموعة بخطة وضعها حسن أبو باشا مساعد وزير الداخلية. الذى أصبح بعد أيام وزيرا للداخلية خلفا للنبوى إسماعيل وحسن أبو باشا هو الذى أعاد بناء جهاز مباحث أمن الدولة، الذى نما ليصبح أحد اهم أيادى مبارك فى الحكم مع قانون الطوارئ.
وبعد أيام ألقى القبض على عبود الزمر.. مقدم المخابرات السابق و302 من أعضاء تنظيم الجهاد، وفى 10 أكتوبر تقدم مبارك جنازة السادات فى حضور رؤساء الولايات المتحدة السابقين: كارتر وفورد ونيكسون.. كان السودانى جعفر نميرى الرئيس العربى الوحيد الذى شارك فى الجنازة. فقد كانت علاقات الدول العربية مع مصر مقطوعة منذ ما بعد كامب ديفيد.
فى بداية حكمه سعى مبارك لإرضاء المعارضة وكان يرد على أى مراسل يسأله عن سياسته وما اذا كانت مثل السادات او عبد الناصر يرد مبتسما «أنا اسمى حسنى مبارك» وهى إجابة حمالة اوجه. بعد أسابيع من اغتيال السادات افرج مبارك عن جميع المعتقلين السياسيين الكبار واستقبلهم فى القصر الجمهورى.
فى فبراير 1982 دعا الرئيس مبارك الاقتصاديين بمختلف اتجاهاتهم اليسار واليمين والوسط، إلى المؤتمر الاقتصادى لمناقشة وضع الاقتصاد المتردى وبالفعل اجتمعوا وتناقشوا واصدروا توصيات.تم وضعها فى الأدراج ولم تظهر مرة أخرى وكانت هذه اخر مرة يستدعى فيها مبارك الخبراء.
وفى يوم 15 إبريل 1982 نُفِذ حكم الإعدام شنقاً فى كل من عطا طايل حميدة رحيل وعبد الحميد عبد السلام عبد العال ومحمد عبد السلام فرج. وفى صباح ذلك اليوم نُقل الملازم أول خالد الإسلامبولى والرقيب حسين عباس من السجن الحربى إلى ميدان ضرب النار. رفض خالد أن يضع العصابة السوداء على وجهه..دقت الطبول فصوب الجنود بنادقهم على القلب المرسوم فوق سترة الإعدام وأطلقوا النار.
25 إبريل 1982 رفع الرئيس حسنى مبارك العلم المصرى فوق شبه جزيرة سيناء بعد استعادتها كاملة واستكمال الانسحاب الإسرائيلى بعد احتلال 15 عاما لتكون هذه اول ثمرة يجنيها مبارك من جهد السادات الذى لم ير حلمه. وعادت صحف المعارضة إلى الظهور، وسمح للصحف الحكومية بدرجة من الحرية، وعاد معارضو السادات الاعلاميين مثل محمود السعدنى ومحمود أمين العالم وغيرهم وعادت صحف الشعب والأهالى للصدور بكتابها الذين اعتقل السادات منهم حلمى مراد وفتحى رضوان وصلاح عيسى وجلال أمين وإسماعيل صبرى عبد الله وفؤاد مرسى.
احتفظ مبارك بنفس حكومة السادات الأخيرة وتركيبة الحزب الوطنى ومجلسى الشعب والشورى لمدة ثلاثة أعوام كاملة، بقى الدكتور فؤاد محيى الدين رئيسا للوزراء، وامينا عاما للحزب الوطنى، وغير فقط وزير الداخلية حيث قال النبوى إسماعيل وعين حسن أبو باشا، وكانت وزارة الداخلية أكثر الوزارات التى شهدت تغييرا وسط جمود وزارى.
فى بداية عهد مبارك استقبله المصريون بنكات تشير إلى أنه لم يكن بالذكاء المطلوب، وبدا أنه غير مثير للتنكيت، وبعد توليه الرئاسة مبارك اعتبره المصريون رجلا لا يفهم فى السياسة، تزامن توليه مع إعلان جبنة «لافاش كيرى» أو «البقرة الضاحكة»، واختفى الإعلان وتردد أنه تم منعه. وبدأوها بنكتة: «واحد أكلنا المش والتانى علمنا الغش والتالت لا بيهش ولا بينش»، وكانت هذا إشارة إلى اشتراكية عبد الناصر، وخبث السادات، وخلو مبارك من أى ميزة. مبارك حكم سنوات تفوق السنوات التى قضاها جمال عبدالناصر والسادات.
بعد المنصة ترددت نكتة أن مبارك بعد أن تأكد من موت السادات دخل الحمام، ووقف يرقص أمام المرآه ويغنى: «وبقيت الريس.. وبقيت الريس». واستمر مبارك حاكما فردا بلا نائب طوال ثلاثة عقود بداها برعب المنصة ونهاها برعب أشد ثورة شعبية تطيح به بالرغم من قانون وحالة الطوارئ اللتان فرضا بعد اغتيال السادات واستمر ثلاثين عاما. وغدا عام جديد ويوم جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق