جلست تحت تلك الشجرة العتيقة التي تبعد عن بيتها بضعة أمتار والتي تحجب الشمس تماما عنها، جلست تنظر للأفق البعيد بعينين مذهولتين تنظر باحثة عن لا شيء، تذكرت أطفالها الذين كانوا يلعبون ويمرحون حولها، يتعاركون أحياناً ويضحكون أحياناً أخرى، تذكرتهم جميعاً ... ملامحهم البريئة التي تأسر من ينظر لها، معاركهم الصغيرة حول لعبة أو دمية، غضبهم الشديد على لا شيء أو على ظلم وقع على أحدهم، كانوا ككل الأطفال يغضبون سريعاً و ينسون سريعا، تداعت الذكريات بقوة تطرق رأسها الواهن حتى ذرفت عيونها دمعة حارة تجمدت على صفحة خدها و أبت أن تسقط.
رأت خيالات كثيرة في صحوها ونومها تثبت لها أن الغائبين ما يزالون تحت مظلة السماء أحياء، ولكن مرور الأيام ثقيلة كانت تكذب أوهامها، ومع ذلك ظلت تأتي كل يوم إلى ظل تلك الشجرة تنتظر بصيص أمل أو لمحة من خيال، تخيلتهم رجالاً وبعد غيبتهم أصبحوا فرساناً، لم تعد تتذكر ملامحهم جيداً فلقد مر زمن طويل وهم غائبون، ولكن الأمل -هذا الساحر الخلاب-مازال يطاردها ويراودها عن أحلامها ويبث في جنبات روحها البهجة والثقة في بلوغ المنشود منه.
جلست تتجرع الذكريات عندما كان زواجها الأول من رجل بغيض، اشتراها من أهلها بثمن بخس، استحل جسدها وأهانه ودنسه ولكنه لم يستطع المساس بمكنون جوهرها الذي أبى إلا أن يظل طاهراً نقياً، ثم مات هذا البغيض ولم يترك له خلفاَ، واعتبرته رحمة من الله أن تنبت الصلة بينها وبينه للأبد.
كانت شابة غضة يوم مات، وكانت نيران الشوق تجتاح قلبها التوّاق للسلام والسكينة، ولكنها قررت أن تكون صارمة في اختيار من يكون رسول السلام، ظلت تفرز النفوس والعقول بحثاً عن نصفها المفقود... وأخيراً وبعد بحث مستفيض، وتفتيش مستمر وجدته، شاباً قوياً أميناً يشمر أكمام قميصه عن ساعدين قويين مفتولا العضلات، أسمر البشرة ذو شعر أجعد وقلب ينبض بالحرية والاستقلال، تلاقت الأرواح في أعلى مراتب السمو والترفع عن تفاهات الجسد، فانتصرت للقيم العليا التي تبحث عنها، ربما زهداً في اتصال ملته وسئمت من تكراره بحيوانية مفرطة، حتى أورثها زهداً حتى لجسدها، وساهم هو في إذكاء الشوق المشتعل في القلب التواق لصنف قديم جديد من التواصل بين النفوس المعذبة في هذا العالم الذي لا يعترف إلا بالقوة والتسلط.
ومع زهدهما كان منه البنون، نبت طيب شق الأرض يتلمس ضياء الشمس، لم يكونوا كبقية الأطفال في مرحهم ولعبهم، كانوا أكثر ضجة وتنازعاً، لم تكن هي تريد أن تكبح جماح تطلعاتهم الصغيرة في إثبات حقهم في الصراع الأبدي، وكانت ترى أن صراعهم هذا محتوم وطبيعي، وكان هو يزيدهم تمسكاً بحقهم، غرس فيهم الحب والانتماء والتنافس الشريف، علمهم أن اختلاف ملامحهم لا ينفي كونهم إخوة، فتربوا على أرض صلبة زادتها الشمس صلابة والنيل خصوبة.
حتى جاء اليوم الذي اختفى فيه الجميع كأنهم ذابوا، خرج الأب يوماً للسعي على الرزق ولكنه لم يعود، وخرجت تبحث عنه ولكنها عندما عادت لم تجد أحداً من أبناؤهما، طال بحثها عنهم ولكن بلا فائدة، غابوا جميعاً وتركوها وحيدة نهباً للأفكار وقطاع الطرق، تتنازعها الأفكار وانهالت عليها الصخور من كل حدب وصوب، تمزقت ثيابها بعد أن بليت، كان يمر عليها صنوفاً من العابرين وهي تجلس تحت تلك الشجرة العتيقة تنتظر الغائبين، الذين يحملون الأمل بين أكفهم الخضراء، تنتظر من يأتيها بثوب جديد بألوان الربيع، تنتظر الأمان والسلم الذي غاب طويلاً، وهي تعلم كل العلم أنه داخلها ولكنه ينتظر من يجعله يشع مرة أخرى على وجهها، لم تمل يوماً أن هذا سيحدث، ولم تمل يوماً أنها ستعود شامخة قوية يحيط بها أبناؤها حتى ولو عادوا مختلفين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق